فصل: المبحث الرابع: العرف الذي تحمل عليه الألفاظ, إنما هو المقارن السابق دون المتأخر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية ***


المبحث الثاني‏:‏ إنما تعتبر العادة إذا اطردت‏,‏

فإن اضطربت فلا‏.‏ وإن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف‏.‏ قال الإمام‏,‏ في باب الأصول والثمار‏:‏ كل ما يتضح فيه اطراد العادة‏,‏ فهو المحكم‏,‏ ومضمره كالمذكور صريحا‏,‏ وكل ما تعارض الظنون بعض التعارض في حكم العادة فيه فهو مثار الخلاف‏.‏ انتهى‏.‏

وفي ذلك فروع‏:‏

منها‏:‏ باع شيئا بدراهم وأطلق‏,‏ نزل على النقد الغالب‏,‏ فلو اضطربت العادة في البلد وجب البيان‏,‏ وإلا يبطل البيع‏.‏

ومنها‏:‏ غلبت المعاملة بجنس من العروض‏,‏ أو نوع منه انصرف الثمن إليه عند الإطلاق في الأصح‏.‏ كالنقد‏.‏

ومنها‏:‏ استأجر للخياطة‏,‏ والنسخ‏,‏ والكحل‏,‏ فالخيط‏,‏ والحبر‏,‏ والكحل على من‏؟‏ خلاف‏,‏ صحح الرافعي في الشرح الرجوع فيه إلى العادة‏,‏ فإن اضطربت وجب البيان‏,‏ وإلا فتبطل الإجارة‏.‏

ومنها‏:‏ البطالة في المدارس‏,‏ سئل عنها ابن الصلاح‏,‏ فأجاب بأن ما وقع منها في رمضان ونصف شعبان لا يمنع من الاستحقاق‏.‏ حيث لا نص فيه من الواقف على اشتراط الاشتغال في المدة المذكورة‏,‏ وما يقع منها قبلهما يمنع لأنه ليس فيها عرف مستمر‏.‏ ولا وجود لها قطعا في أكثر المدارس‏,‏ والأماكن فإن سبق بها عرف في بعض البلاد واشتهر غير مضطرب فيجري فيها في ذلك البلد الخلاف‏:‏ في أن العرف الخاص هل ينزل في التأثير منزلة العرف العام‏.‏ والظاهر تنزيله في أهله بتلك المنزلة‏.‏ انتهى‏.‏

ومنها‏:‏ المدارس الموقوفة على درس الحديث‏,‏ ولا يعلم مراد الواقف فيها‏,‏ هل يدرس فيها علم الحديث‏,‏ الذي هو معرفة المصطلح كمختصر ابن الصلاح‏,‏ ونحوه‏,‏ أو يقرأ متن الحديثين‏؟‏ كالبخاري‏,‏ ومسلم‏,‏ ونحوهما‏,‏ ويتكلم على ما في الحديث‏:‏ من فقه‏,‏ وغريب‏,‏ ولغة‏,‏ ومشكل‏,‏ واختلاف‏.‏ كما هو عرف الناس الآن‏,‏ وهو شرط المدرسة الشيخونية‏,‏ كما رأيته في شرط واقفها‏.‏ 

وقد سأل شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر شيخه الحافظ أبا الفضل العراقي عن ذلك فأجاب‏:‏ بأن الظاهر اتباع شروط الواقفين‏,‏ فإنهم يختلفون في الشروط‏,‏ وكذلك اصطلاح أهل كل بلد‏,‏ والشام يلقون دروس الحديث‏,‏ كالشيخ المدرس في بعض الأوقات‏.‏ بخلاف المصريين فإن العادة جرت بينهم في هذه الأعصار بالجمع بين الأمرين بحسب ما يقرأ فيه من الحديث‏.‏

فصل‏:‏ في تعارض العرف مع الشرع‏.‏

هو نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن لا يتعلق بالشرع حكم‏,‏ فيقدم عليه عرف الاستعمال‏,‏

فلو حلف لا يأكل لحما‏;‏ لم يحنث بالسمك‏,‏ وإن سماه الله لحما‏,‏

أو لا يجلس على بساط أو تحت سقف أو في ضوء سراج‏,‏ لم يحنث بالجلوس على الأرض وإن سماها الله بساطا‏,‏ ولا تحت السماء‏,‏ وإن سماها الله سقفا‏,‏ ولا في الشمس‏,‏ وإن سماها الله سراجا‏,‏

أو لا يضع رأسه على وتد‏,‏ لم يحنث بوضعها على جبل‏,‏

أو لا يأكل ميتة أو دما‏,‏ لم يحنث بالسمك والجراد والكبد والطحال‏,‏ فقدم العرف في جميع ذلك‏;‏ لأنها استعملت في الشرع تسمية بلا تعلق حكم وتكليف‏.‏ والثاني‏:‏ أن يتعلق به حكم فيقدم على عرف الاستعمال

فلو حلف لا يصلي‏;‏ لم يحنث إلا بذات الركوع والسجود أو لا يصوم‏,‏ لم يحنث بمطلق الإمساك‏,‏ أو لا ينكح حنث بالعقد لا بالوطء‏.‏

أو قال‏:‏ إن رأيت الهلال فأنت طالق‏,‏ فرآه غيرها‏,‏ وعلمت به‏,‏ طلقت‏,‏ حملا له على الشرع فإنها فيه بمعنى العلم لقوله‏:‏ ‏"‏إذا رأيتموه فصوموا‏"‏‏.‏

ولو كان اللفظ يقتضي العموم‏,‏ والشرع يقتضي التخصيص‏,‏ اعتبر خصوص الشرع في الأصح‏.‏

فلو حلف لا يأكل لحما لم يحنث بالميتة‏,‏ أو لا يطأ لم يحنث بالوطء في الدبر على ما رجحه في كتاب الأيمان‏,‏ أو أوصى لأقاربه لم تدخل ورثته عملا بتخصيص الشرع إذ لا وصية لوارث أو حلف لا يشرب ماء‏,‏ لم يحنث بالمتغير كثيرا بزعفران ونحوه‏.‏

فصل‏:‏ في تعارض العرف مع اللغة

حكى صاحب الكافي وجهين في المقدم‏.‏

أحدهما وإليه ذهب القاضي حسين ‏:‏ الحقيقة اللفظية عملا بالوضع اللغوي‏.‏

والثاني وعليه البغوي ‏:‏ الدلالة العرفية لأن العرف يحكم في التصرفات سيما في الأيمان‏.‏

قال‏:‏ فلو دخل دار صديقه‏,‏ فقدم إليه طعاما فامتنع‏.‏ فقال إن لم تأكل فامرأتي طالق فخرج ولم يأكل‏,‏ ثم قدم اليوم الثاني‏,‏ فقدم إليه ذلك الطعام فأكل فعلى الأول لا يحنث‏,‏ وعلى الثاني يحنث‏,‏ انتهى‏.‏

وقال الرافعي في الطلاق‏:‏ إن تطابق العرف والوضع فذاك‏.‏ وإن اختلفا فكلام الأصحاب يميل إلى الوضع‏,‏ والإمام والغزالي يريان اعتبار العرف‏.‏ وقال في الأيمان ما معناه إن عمت اللغة قدمت على العرف‏.‏ وقال غيره‏:‏ إن كان العرف ليس له في اللغة وجه البتة‏,‏ فالمعتبر اللغة‏,‏ وإن كان له فيه استعمال‏,‏ ففيه خلاف وإن هجرت اللغة حتى صارت نسيا منسيا‏,‏ قدم العرف‏.‏

ومن الفروع المخرجة على ذلك‏:‏

حلف لا يسكن بيتا‏,‏ فإن كان بدويا حنث بالمبني وغيره لأنه قد تظاهر فيه العرف الكل واللغة لأن يسمونه بيتا‏,‏ وإن كان من أهل القرى‏:‏ فوجهان‏,‏ بناء على الأصل المذكور إن اعتبرنا العرف لم يحنث والأصح الحنث‏.‏

ومنها‏:‏ حلف لا يشرب ماء حنث بالمالح‏,‏ وإن لم يعتد شربه‏,‏ اعتبارا بالإطلاق‏,‏ والاستعمال اللغوي‏.‏

ومنها‏:‏ حلف لا يأكل الخبز حنث بخبز الأرز‏,‏ وإن كان من قوم لا يتعارفون ذلك لإطلاق الاسم عليه لغة‏.‏

ومنها‏:‏ قال أعطوه بعيرا‏,‏ لا يعطى ناقة على المنصوص‏,‏ وقال ابن شريح‏:‏ نعم لاندراجه فيها لغة‏.‏

ومنها‏,‏ قال أعطوه دابة‏,‏ أعطي فرسا أو بغلا أو حمارا على المنصوص‏,‏ لا الإبل والبقر‏;‏ إذ لا يطلق عليها عرفا وإن كان يطلق عليه لغة‏,‏ وقال ابن شريح‏:‏ إن كان ذلك في غير مصر لم يدفع إليه إلا الفرس‏.‏

ومنها‏:‏ حلف لا يأكل البيض أو الرءوس‏;‏ لم يحنث ببيض‏,‏ السمك والجراد‏,‏ ولا برءوس العصافير والحيتان لعدم إطلاقها عليها عرفا‏.‏

ومنها قال‏:‏ زوجتي طالق‏,‏ لم تطلق سائر زوجاته عملا بالعرف وإن كان وضع اللغة يقتضي ذلك‏;‏ لأن اسم الجنس إذا أضيف عم‏,‏ وكذلك قوله‏:‏ الطلاق يلزمني لا يحمل على الثلاث وإن كانت الألف واللام للعموم‏.‏

ومنها‏:‏ أوصى للقراء‏,‏ فهل يدخل من لا يحفظ ويقرأ في المصحف‏,‏ أو لا‏؟‏ وجهان ينظر في أحدهما إلى الوضع‏,‏ وفي الثاني إلى العرف وهو الأظهر‏.‏

ومنها‏:‏ أوصى للفقهاء فهل يدخل الخلافيون والمناظرون‏.‏ قال في الكافي‏:‏ يحتمل وجهين لتعارض العرف والحقيقة‏.‏

تنبيه‏:‏

قال الشيخ أبو زيد‏:‏ لا أدري ماذا بنى الشافعي مسائل الأيمان‏,‏ إن اتبع اللغة‏؟‏ فمن حلف‏:‏ لا يأكل الرءوس‏,‏ فينبغي أن يحنث برءوس الطير‏,‏ والسمك‏.‏ وإن اتبع العرف‏,‏ فأهل القرى لا يعدون الخيام بيوتا‏.‏

قال الرافعي‏:‏ يتبع مقتضى اللغة تارة‏,‏ وذلك عند ظهورها وشمولها‏,‏ وهو الأصل‏.‏ وتارة يتبع العرف إذا استمر واطرد‏.‏

وقال ابن عبد السلام‏:‏ قاعدة الأيمان‏:‏ البناء على العرف إذا لم يضطرب‏,‏ فإن اضطرب فالرجوع إلى اللغة‏.‏

تنبيه‏:‏

إنما يتجاذب الوضع والعرف في العربي‏,‏ أما الأعجمي فيعتبر عرفه قطعا‏;‏ إذ لا وضع يحمل عليه‏.‏

فلو حلف على البيت بالفارسية‏,‏ لم يحنث ببيت الشعر‏,‏ ولو أوصى لأقاربه لم يدخل قرابة الأم في وصية العرب ويدخل في وصية العجم‏.‏

ولو قال‏:‏ إن رأيت الهلال فأنت طالق‏,‏ فرآه غيرها‏,‏ قال القفال‏:‏ إن علق بالعجمية حمل على المعاينة‏.‏ سواء فيه البصير والأعمى‏.‏

قال‏:‏ والعرف الشرعي في حمل الرؤية على العلم‏,‏ لم يثبت إلا في اللغة العربية‏,‏ ومنع الإمام الفرق بين اللغتين‏.‏

ولو حلف لا يدخل دار زيد‏,‏ فدخل ما سكنه بإجارة لم يحنث‏.‏ وقال القاضي حسين‏:‏ إن حلف على ذلك بالفارسية‏,‏ حمل على المسكن‏.‏ قال الرافعي‏:‏ ولا يكاد يظهر فرق بين اللغتين‏.‏

فصل‏:‏ في تعارض العرف العام والخاص‏.‏

والضابط‏:‏ أنه إن كان المخصوص محصورا لم يؤثر‏,‏ كما لو كانت عادة امرأة في الحيض أقل مما استقر من عادات النساء ردت إلى الغالب في الأصح‏.‏ وقيل‏:‏ تعتبر عادتها‏,‏ وإن كان غير محصور اعتبر كما لو جرت عادة قوم بحفظ زرعهم ليلا ومواشيهم نهارا فهل ينزل ذلك منزلة العرف العام في العكس‏؟‏ وجهان الأصح‏:‏ نعم‏.‏ 

المبحث الثالث‏:‏ العادة المطردة في ناحية‏,‏ هل تنزل عادتهم منزلة الشرط‏؟‏

فيه صور‏.‏

منها‏:‏ لو جرت عادة قوم بقطع الحصرم قبل النضج‏,‏ فهل تنزل عادتهم منزلة الشرط حتى يصح بيعه من غير شرط القطع‏.‏ وجهان‏,‏ أصحهما‏:‏ لا وقال القفال‏:‏ نعم‏.‏

ومنها‏:‏ لو عم في الناس اعتياد إباحة منافع الرهن للمرتهن فهل ينزل منزلة شرطه حتى يفسد الرهن‏,‏ قال الجمهور‏:‏ لا‏,‏ وقال القفال‏:‏ نعم‏.‏

ومنها‏:‏ لو جرت عادة المقترض برد أزيد مما اقترض‏,‏ فهل ينزل منزلة الشرط‏,‏ فيحرم إقراضه وجهان‏,‏ أصحهما‏:‏ لا‏.‏

ومنها‏:‏ لو اعتاد بيع العينة بأن يشتري مؤجلا بأقل مما باعه نقدا‏,‏ فهل يحرم ذلك‏,‏ وجهان‏,‏ أصحهما‏:‏ لا‏.‏ ومنها‏:‏ لو بارز كافر مسلما وشرط الأمان‏,‏ لم يجز للمسلم إعانة المسلم فلو لم يشرط ولكن اطردت العادة بالمبارزة بالأمان‏,‏ فهل هو كالمشروط‏,‏ وجهان‏,‏ أصحهما‏:‏ نعم‏,‏ فهذه الصور مستثناة‏.‏

ومنها‏:‏ لو دفع ثوبا مثلا إلى خياط ليخيطه ولم يذكر أجرة وجرت عادته بالعمل بالأجرة فهل ينزل منزلة شرط الأجرة‏.‏ خلاف‏,‏ والأصح في المذهب‏:‏ لا‏,‏ واستحسن الرافعي مقابله‏.‏

المبحث الرابع‏:‏ العرف الذي تحمل عليه الألفاظ‏,‏ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر

قال الرافعي‏:‏ العادة الغالبة إنما تؤثر في المعاملات‏,‏ لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيما يروج في النفقة غالبا ولا يؤثر في التعليق والإقرار‏,‏ بل يبقى اللفظ على عمومه فيها‏.‏ أما في التعليق فلقلة وقوعه‏.‏ وأما في الإقرار‏:‏ فلأنه إخبار عن وجوب سابق‏,‏ وربما يقدم الوجوب على العرف الغالب‏,‏ فلو أقر بدراهم وفسرها بغير سكة البلد‏,‏ قبل‏.‏

قال الإمام‏:‏ وكذا الدعوى بالدراهم لا تنزل على العادة كما أن الإقرار بها لا ينزل على العادة بل لا بد من الوصف‏,‏ وكذا قال الشيخ أبو حامد والماوردي والروياني وغيرهم‏,‏ وفرقوا بما سبق أن الدعوى والإقرار إخبار عما تقدم‏,‏ فلا يفيده العرف المتأخر بخلاف العقد فإنه أمر باشره في الحال‏,‏ فقيده العرف‏.‏

ولو أقر بألف مطلقة في بلد دراهمه ناقصة‏,‏ لزمه الناقصة في الأصح وقيل يلزمه وافية لعرف الشرع‏,‏ ولا خلاف أنه لو اشترى بألف في هذه البلد لزمه الناقصة لأن البيع معاملة والغالب‏:‏ أن المعاملة تقع بما يروج فيها بخلاف الإقرار‏.‏ 

ومن الفروع المخرجة على هذا الأصل ما سبق في مسألة البطالة‏,‏ فإذا استمر عرف بها في أشهر مخصوصة حمل عليه ما وقف بعد ذلك لا ما وقف قبل هذه العادة‏.‏

ومنها‏:‏ كسوة الكعبة‏.‏ نقل الرافعي عن ابن عبدان أنه منع من بيعها وشرائها‏,‏ وقال ابن الصلاح‏:‏ الأمر فيها إلى رأي الإمام‏;‏ واستحسنه النووي وقال العلائي وغيره‏:‏ الذي يقتضيه القياس أن العادة استمرت بأنها تبدل كل سنة وتؤخذ تلك العتيقة فيتصرف فيها بيعا وغيره‏,‏ ويقرهم الأئمة على ذلك في كل عصر فلا تردد في جوازه‏.‏

وأما بعد ما اتفق في هذا القرن‏:‏ من وقف الإمام ضيعة معينة على أن يصرف ريعها في كسوة الكعبة‏,‏ فلا يتردد في جواز ذلك لأن الوقف بعد استقرار هذه العادة والعلم بها فينزل لفظ الواقف عليها‏.‏

ومنها‏:‏ الأوقاف القديمة المشروط نظرها للحاكم‏,‏ وكان الحاكم إذ ذاك شافعيا ثم إن الملك الظاهر أحدث القضاة الأربعة‏,‏ سنة أربع وستين وستمائة‏,‏ فما كان موقوفا قبل ذلك اختص نظره بالشافعي فلا يشاركه غيره‏,‏ وما أطلق من النظر بعد ذلك فمحمول عليه أيضا لأن أهل العرف غالبا لا يفهمون من إطلاق الحاكم غير الشافعي‏.‏

قال السبكي في فتاويه‏:‏ ذكر الشيخ برهان الدين بن الفركاح قال‏:‏ وقفت على فتيا صورتها‏:‏ أنه جعل النظر لحاكم دمشق وكان حينئذ في دمشق حاكم واحد على مذهب معين‏,‏ ثم ولى السلطان في دمشق أربع قضاة ومات القاضي الذي كان موجودا حين الوقف‏.‏ وبعد ذلك ولي القضاة الأربعة وأحدهم على مذهب الذي كان حين الوقف أولا‏.‏ وقد كتب عليها جماعة‏,‏ منهم الشيخ زين الدين الفارقي والصفي الهندي وآخرون‏:‏ أنه يختص بذلك الذي هو على مذهب الموجود حين الوقف‏.‏

قال السبكي‏:‏ ومستند ذلك أنه لما حصلت التولية في زمن الملك الظاهر حصلت لثلاثة مع القاضي الذي كان حين الوقف‏,‏ وذلك القاضي لم ينعزل عن نظره‏,‏ ولا جعل الثلاثة مزاحمين له في كل ما يستحق‏,‏ بل أفرد هو بالأوقاف‏,‏ والأيتام والنواب وبيت المال وجعل الثلاثة مشاركين في الباقي‏,‏ كأنهم نواب له في بعض الأشياء‏,‏ وفصل الحكومات على مذهبهم‏,‏ لا في الأنظار‏,‏ ثم لما مات ذلك القاضي تولى واحد مكانه على عادته فينتقل إليه كل ما كان بيد الذي قبله‏,‏ ولا يشاركه فيه واحد من الثلاثة‏.‏

قال‏:‏ وأيضا فإن قول الواقف‏:‏ النظر للحاكم إن حمل على العموم اقتضى دخول النواب والعرف بخلافه‏,‏ فإنما يحمل على المعهود‏,‏ والمعهود هو ذلك الشخص والحمل عليه بعيد لأنه لا يدوم فوجب أن يحمل عليه وعلى من كان مكانه‏,‏ فكأنه هو بالنوع‏,‏ لا بالشخص والذي ولي معه ليس مكانه ولا هو من نوعه‏,‏ وإنما أريد بولايته إقامة من يحكم بذلك المذهب المتجدد‏,‏ فيما لا يمكن الحاكم المستمر الحكم به‏,‏ لكونه خلاف مذهبه‏,‏ فلا مدخل للأنظار في ذلك‏.‏ 

قال‏:‏ فإن قلت‏:‏ لو قال‏:‏ لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى القاضي فالأصح أنه لا يتعين ذلك القاضي‏,‏ بل قاضي تلك البلد من كان حالة اليمين أو بعدها‏.‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏ وكذا أقول‏:‏ لا يتعين قاضي حالة الوقف‏,‏ بل هو أو من تولى مكانه والثلاثة لم يولوا مكانه‏.‏

قال‏:‏ فإن قلت‏:‏ لو كان حال اليمين في البلد قاضيان‏,‏ بر بالرفع إلى من شاء منهما فقياسه إذا شرط النظر للقاضي‏,‏ وهناك قاضيان أن يشتركا فيه‏.‏

قلت‏:‏ المقصود في اليمين‏:‏ الرفع إلى من يغير المنكر‏,‏ وكلاهما يغير المنكر فكل منهما يحصل به الغرض‏,‏ والمقصود باشتراط النظر فعل مصلحة الوقف والاشتراك يؤدي إلى المفسدة باختلاف الآراء‏,‏ فوجب الصرف إلى واحد وهو الكبير‏.‏

قال‏:‏ وقد وقع في بعض الأوقاف وقف بلد على الحرم وشرط النظر فيه للقاضي وأطلق ففيه احتمالات‏.‏

أحدها‏:‏ أنه قاضي الحرم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه قاضي البلد الموقوفة‏.‏

قال‏:‏ وهذان الاحتمالان يشبهان الوجهين في أنه كان اليتيم في بلد وماله في بلد آخر‏.‏ والأصح عند الرافعي‏:‏ أن النظر لقاضي بلد اليتيم‏,‏ وعند الغزالي أنه لقاضي بلد المال فعلى ما قال الرافعي‏:‏ يكون لقاضي الحرم‏.‏ والثاني أن يكون لقاضي بلد السلطان‏,‏ كما في اليمين‏.‏

فعلى هذا‏:‏ هل يكون قاضي بلد السلطان الأصلية التي هي مصر‏,‏ أو قاضي البلد التي كان السلطان بها حين الوقف‏.‏

قال‏:‏ والذي يترجح أن يكون النظر لقاضي البلد الموقوفة‏;‏ لأنه أعرف بمصالحها‏,‏ فالظاهر أن الواقف قصده وبه تحصل المصلحة‏,‏ لا سيما إذا كان السلطان حين الوقف فيها‏.‏ قلت‏:‏ الظاهر احتمال رابع‏,‏ وهو أن يكون لقاضي البلد التي جرى الوقف بها‏,‏ والظاهر أنه مراد السبكي ببلد السلطان بقرينة تشبيهه بمسألة اليتيم‏,‏ والله أعلم‏.‏

المبحث الخامس‏:‏ ‏[‏في كل ما ورد به الشرع مطلقا‏]‏

قال الفقهاء‏:‏ كل ما ورد به الشرع مطلقا‏,‏ ولا ضابط له فيه‏,‏ ولا في اللغة‏,‏ يرجع فيه إلى العرف‏.‏

ومثلوه بالحرز في السرقة‏,‏ والتفرق في البيع‏,‏ والقبض ووقت الحيض وقدره والإحياء والاستيلاء في الغصب‏,‏ والاكتفاء في نية الصلاة بالمقارنة العرفية‏,‏ بحيث يعد مستحضرا للصلاة على ما اختاره النووي وغيره‏.‏

وقالوا في الأيمان‏:‏ أنها تبنى أولا على اللغة‏,‏ ثم على العرف‏.‏

 وخرجوا عن ذلك في مواضع لم يعتبروا فيها العرف‏,‏ مع أنها لا ضابط لها في الشرع ولا في اللغة‏.‏

منها‏:‏ المعاطاة المذهب‏,‏ لا يصح البيع بها‏,‏ ولو اعتيدت لا جرم أن النووي قال‏:‏ المختار الراجح دليلا الصحة‏;‏ لأنه لم يصح في الشرع اعتبار لفظ فوجب الرجوع إلى العرف كغيره من الألفاظ‏.‏

ومنها‏:‏ مسألة استصناع الصناع الجارية عادتهم بالعمل بالأجرة لا يستحقون شيئا‏,‏ إذا لم يشرطوه في الأصح‏.‏

ومن أمثلة ذلك‏:‏ أن يدفع ثوبا إلى خياط ليخيطه أو قصار ليقصره أو جلس بين يدي حلاق فحلق رأسه‏,‏ أو دلاك فدلكه‏,‏ أو دخل سفينة بإذن وسار إلى الساحل‏.‏ وأما دخول الحمام فإنه يوجب الأجرة‏,‏ وإن لم يجر لها ذكر قطعا لأن الداخل مستوف منفعة الحمام بسكوته‏,‏ وهنا صاحب المنفعة صرفها‏.‏

ومنها‏:‏ لم يرجعوا في ضبط موالاة الوضوء وخفة الشعر وكثافته‏,‏ للعرف في الأصح ولا في ضابط التحذير‏.‏

فرع‏:‏

سئل الغزالي عن اليهودي إذا أجر نفسه مدة معلومة ما حكم السبوت التي تتخللها إذا لم يستثنها فإن استثناها فهل تصح الإجارة لأنه يؤدي إلى تأخير التسليم عن العقد‏,‏ فأجاب‏:‏ إذا اطرد عرفهم بذلك كان إطلاق العقد كالتصريح بالاستثناء‏,‏ كاستثناء الليل في عمل لا يتولى إلا بالنهار‏.‏

وحكمه‏:‏ أنه لو أنشأ الإجارة في أول الليل مصرحا بالإضافة إلى أول الغد‏,‏ لم يصح‏,‏ وإن أطلق صح وإن كان الحال يقتضي تأخير العمل كما لو أجر أرضا للزراعة وفي وقت لا يتصور المبادرة إلى زرعها أو أجر دارا مشحونة بالأمتعة‏,‏ لا تفرغ إلا في يوم أو يومين‏,‏ انتهى‏.‏

وقد نقله عنه الرافعي والنووي ولم ينقلاه عن غيره‏.‏ قال السبكي‏:‏ ولا ينبغي أن يؤخذ مسلم بل ينظر فيه‏.‏

قال‏:‏ وقد سئل عنه قاضي القضاة أبو بكر الشامي فقال‏:‏ يجبر على العمل فيها لأن الاعتبار بشرعنا في ذلك‏,‏ فذكر له كلام الغزالي فقال‏:‏ ليس بصحيح‏,‏

ثم قال‏:‏ يحتمل أن يقال ذلك ويستثنى بالعرف‏.‏

قال السبكي‏:‏ وكلام الغزالي متين وقويم وفيه فوائد وهو أولى من قول أبي بكر الشامي لأن العرف وإن لم يكن عاما‏,‏ لكنه موجود فيه فينزل منزلة العرف في أوقات الراحة‏,‏ ونحوها‏.‏

 قال‏:‏ وقوله إذا اطرد عرفهم بذلك‏,‏ فينبغي أن يحمل على عرف المستأجر والمؤجر جميعا‏,‏ سواء كان المستأجر مسلما أم لا‏,‏ فلو كان عرف اليهود مطردا بذلك ولكن المستأجر المسلم لم يعرف ذلك‏,‏ لم يكن إطلاق العقد في حقه منزلا منزلة الاستثناء والقول قول المسلم في ذلك إذا لم يكن من أهل تلك البلدة‏,‏ ولم يعلم من حاله ما يقتضي معرفته بذلك العرف‏.‏ وحينئذ هل يقول العقد باطل‏,‏ أو يصح ويثبت له الخيار أو يلزم اليهودي بالعمل‏؟‏ فيه نظر‏,‏ والأقرب الثالث‏;‏ لأن اليهودي مفرط بالإطلاق مع من ليس من أهل العرف قال‏:‏ وإذا اقتضى الحال استثناءها‏,‏ وأسلم الذمي في مدة الإجارة‏,‏ وأتى عليه بعد إسلامه يوم سبت‏,‏ وجب العمل فيه لأنا نقول عند الاستثناء أنه خارج عن عقد الإجارة‏;‏ فإنه لو كان كذلك لجرى في الإجارة خلاف‏,‏ كإجارة العقب ولجاز له أن يؤجر نفسه يوم السبت لآخر‏,‏ وتجويز ذلك بعيد‏,‏ فإنه يلزم منه عقد الإجارة على العين لشخصين على الكمال في مدة واحدة‏.‏ وكلام الفقهاء يأباه‏,‏ وصرحوا بأنه إذا ورد عقد على عين لا يجوز أن يعقد عليها مثله‏.‏

وهكذا نقول في استثناء أوقات الصلوات ونحوها ليس معناه أن تلك الأوقات متخللة بين أزمان الإجارة‏,‏ كإجارة العقب‏,‏ بل يقول في كل ذلك إن منفعة ذلك الشخص في جميع تلك المدة مستحقة للمستأجر‏,‏ مملوكة بمقتضى العقد ومع هذا يجب عليه توفيره من العمل في تلك الأوقات‏,‏ كما أن السيد يستحق منفعة عبده في جميع الأوقات ومع ذلك يجب توفيره في أوقات الصلوات والراحة بالليل ونحوها‏.‏ فهذا هو معنى الاستثناء‏,‏ وهو استثناء من الاستيفاء‏,‏ لا من الاستحقاق‏.‏ وإن شئت قلت‏:‏ من استيفاء المملوك‏,‏ لا من الملك‏;‏ وإن شئت قلت‏:‏ العقد مقتض لاستحقاقها‏,‏ ولكن منع مانع فاستثناها‏.‏ وحينئذ فالسبوت داخلة في الإجارة وملك المستأجر منفعته فيها وإنما امتنع عليه الاستيفاء لأمر عرفي مشروط ببقاء اليهودية‏,‏ فإذا أسلم لم يبق مانع والاستحقاق ثابت لعموم العقد فيستوفيه‏,‏ ويجب عليه بعد ما أسلم أن يؤدي الصلوات في أوقاتها ويزول استحقاق المستأجر لاستيفائها بالإسلام وإن كانت مملوكة له بالعقد‏,‏ كما لم يستحق استيفاءها في استئجار المسلم وإن كانت مملوكة له‏,‏ بالعقد‏,‏ وإنما وجب استحقاق صرفها قبل الإسلام إلى العمل‏;‏ لعدم المانع من استيفائها مع استحقاقها‏.‏

ونظيره‏:‏ لو استأجر امرأة لعمل مدة فحاضت في بعضها‏,‏ فأوقات الصلاة في زمن الحيض غير مستثناة وفي غيره مستثناة ولا ينظر في ذلك إلى حال العقد بل حال الاستيفاء وهكذا اكتراء الإبل إلى الحج وسيرها محمول على العادة والمنازل المعتادة فلو اتفق في مدة الإجارة تغيير العادة وسار الناس على خلاف ما كانوا يسيرون فيما لا يضر بالأجير والمستأجر‏,‏ وجب الرجوع إلى ما صار عادة للناس‏,‏ ولا نقول بانفساخ العقد واعتبار العادة الأولى‏.‏ هذا مقتضى الفقه‏,‏ وإن لم أجده منقولا‏.‏

قال‏:‏ ولو استعمل المستأجر اليهودي يوم السبت ظالما أو ألزم المسلم العمل في أوقات الصلاة ونحوها‏,‏ لم يلزمه أجرة المثل‏.‏

وقد قال البغوي في فتاويه‏:‏ إنه لو استأجر عبدا فاستعمله في أوقات الراحة‏,‏ لم يجب عليه أجرة زائدة لأن جملة الزمان مستحقة وترك الراحة ليتوفر عليه عمله‏,‏ فإن دخله نقص وجب عليه أرش نقصه‏,‏ كما لو استعمله في أوقات الصلاة لا يجب عليه زيادة أجرة وعليه تركه لقضاء الصلاة‏,‏ هذه عبارته انتهى‏.‏ ونظير مسألة إسلام الذمي ما لو أجر دارا‏,‏ ثم باعها لغير المستأجر‏,‏ ثم تقابل البائع والمستأجر الإجارة‏,‏ والذي ذكره المتولي أن المنافع تعود إلى البائع سواء قلنا إن الإقالة بيع أو على فسخ الصحيح لأنها ترفع العقد من حينها قطعا‏,‏ فلم يوجد عند الرد ما يوجب الحق للمشتري‏,‏ وحكى فيما لو فسخت الإجارة بعيب أو طروء ما يقتضي ذلك وجهين‏,‏ مبنيين على أن الرد بالعيب يرفع العقد من أصله أو حينه إن قلنا بالأول فللمشتري‏;‏ وكأن الإجارة لم تكن‏,‏ أو بالثاني فللبائع لما تقدم‏.‏

الكتاب الثاني‏:‏ في قواعد كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية‏.‏

القاعدة الأولى‏:‏ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد‏.‏

الأصل في ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم نقله ابن الصباغ وأن أبا بكر حكم في مسائل خالفه عمر فيها ولم ينقض حكمه‏,‏ وحكم عمر في المشركة بعدم المشاركة ثم بالمشاركة وقال ذلك على ما قضينا وهذا على ما قضينا‏,‏ وقضى في الجد قضايا مختلفة‏.‏

وعلته أنه ليس الاجتهاد الثاني بأقوى من الأول فإنه يؤدي إلى أنه لا يستقر حكم وفي ذلك مشقة شديدة فإنه إذا نقض هذا الحكم نقض ذلك النقض وهلم جرا‏.‏

ومن فروع ذلك‏:‏

لو تغير اجتهاده في القبلة عمل بالثاني ولا قضاء حتى لو صلى أربع ركعات لأربع جهات بالاجتهاد فلا قضاء‏.‏

 ومنها لو اجتهد فظن طهارة أحد الإناءين فاستعمله وترك الآخر‏,‏ ثم تغير ظنه لا يعمل بالثاني‏,‏ بل يتيمم‏.‏

ومنها لو شهد الفاسق فردت شهادته فتاب وأعادها لم تقبل‏;‏ لأن قبول شهادته بعد التوبة يتضمن نقض الاجتهاد بالاجتهاد‏,‏ كذا علله في التتمة‏.‏

ومنها لو ألحقه القائف بأحد المتداعيين ثم رجع وألحقه بالآخر لم يقبل‏.‏

ومنها لو ألحقه قائف بأحدهما‏,‏ فجاء قائف آخر فألحقه بالآخر لم يلحق به‏;‏ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد‏.‏

ومنها لو حكم الحاكم بشيء ثم تغير اجتهاده لم ينقض الأول وإن كان الثاني أقوى‏,‏ غير أنه في واقعة جديدة لا يحكم إلا بالثاني بخلاف ما لو تيقن الخطأ‏.‏

ومنها حكم الحاكم في المسائل المجتهد فيها لا ينقض‏.‏ ولذلك أمثلة‏.‏

منها‏:‏ الحكم بحصول الفرقة في اللعان بأكثر الكلمات الخمس وببطلان خيار المجلس والعرايا ومنع القصاص في المثقل‏,‏ وصحة النكاح بلا ولي أو بشهادة فاسقين‏,‏ وبيع أم الولد وثبوت الرضاع بعد حولين‏,‏ وصحة نكاح الشغار والمتعة‏,‏ وأنه لا قصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف ورد الزوائد مع الأصل في الرد بالعيب‏,‏ وجريان التوارث بين المسلم والكافر وقتل الوالد بالولد والحر بالعبد والمسلم بالذمي‏,‏ على ما صححه في أصل الروضة في الجميع وإن كان الصواب في الأخير النقض بمخالفته النص الصحيح الصريح‏.‏

ومنها لو خالع زوجته ثلاثا ثم تزوجها الرابعة بلا محلل‏,‏ لاعتقاده أن الخلع فسخ‏,‏ ثم تغير اجتهاده وهو باق معها بذلك النكاح‏,‏ قال الغزالي‏:‏ إن حكم حاكم بصحته لم تجب عليه مفارقتها‏,‏ وإن تغير اجتهاده لما يلزم في فراقها من تغير حكم الحاكم في المجتهدات‏.‏ قال‏:‏ وإن لم يحكم حاكم ففيه تردد‏,‏ والمختار وجوب المفارقة لما يلزم في إمساكها من الوطء الحرام على معتقده‏.‏

الثاني‏:‏ قالوا‏:‏ وما ذكره في حكم الحاكم مبني على أن حكمه ينفذ باطنا وإلا فلا يلزم من فراقه إياها نقض حكم الحاكم لأن هذا بالنسبة إلى أخذه في خاصة نفسه وامتناع نقض الحكم في المجتهدات لما تقدم‏,‏ ليظهر أثره في المتنازعين‏.‏

وعلى ذلك أيضا نبني ما حكاه ابن أبي الدم في أدب القضاء عن الأصحاب أن الحنفي إذا خلل خمرا فأتلفها عليه شافعي لا يعتقد طهارتها بالتخليل فترافعا إلى حنفي وثبت ذلك عنده بطريقه فقضى على الشافعي بضمانها لزمه ذلك قولا واحدا حتى لو لم يكن للمدعي بينة وطالبه بعد ذلك بأداء ضمانها‏,‏ لم يجز للمدعى عليه أن يحلف أنه لا يلزمه شيء لأنه على خلاف ما حكم به الحاكم والاعتبار في الحكم باعتقاد القاضي دون اعتقاده وكأن هذا مفرع على نفوذ الحكم باطنا وإلا فيسوغ له الحلف ويؤيده الخلاف فيما إذا حكم الحنفي للشافعي بشفعة الجوار هل تحل له‏.‏ 

تنبيهات‏:‏

الأول‏:‏ وقع في فتاوى السبكي أن ‏[‏امرأة وقفت دارا ذكرت أنها بيدها وملكها وتصرفها على ذريتها ‏]‏ وشرطت النظر لنفسها ثم لولدها وأشهد حاكم شافعي على نفسه بالحكم بموجب الإقرار المذكور وبثبوت ذلك عنده وبالحكم به وبعده شافعي آخر فأراد حاكم مالكي إبطال هذا الوقف بمقتضى شرطها النظر لنفسها واستمرار يدها عليها وبمقتضى كون الحاكم لم يحكم بصحته وأن حكمه بالموجب لا يمنع النقض وأفتاه بعض الشافعية بذلك تعلقا بما ذكره الرافعي عن أبي سعيد الهروي في قول الحاكم صح ورود هذا الكتاب علي فقبلته قبول مثله وألزمت العمل بموجبه أنه ليس بحكم وتصويب الرافعي ذلك‏.‏

قال السبكي‏:‏ والصواب عندي أنه لا يجوز نقضه سواء اقتصر على الحكم بالموجب أم لا لأن كل شيء حكم فيه حاكم حكما صحيحا لا ينقض حكمه وأما من خص ذلك في الحكم بالصحة فلا‏.‏

وليس هذا اللفظ في شيء من كتب العلم فليس من شرط امتناع النقض أن يأتي الحاكم‏.‏ بلفظ الحكم بالصحة‏.‏

قال ولأن الحكم بموجب الإقرار مستلزم للحكم بصحة الإقرار وصحة المقر به في حق المقر‏,‏ فإذا حكم المالكي ببطلان الوقف استلزم الحكم ببطلان الإقرار وببطلان المقر به في حق المقر‏.‏

قال ولأن الاختلاف بين الحكم بالصحة والموجب إنما يظهر فيما يكون الحكم فيه بالصحة مطلقا على كل أحد‏.‏ أما الإقرار فالحكم بصحته إنما هو على المقر والحكم بموجبه كذلك‏.‏

قال‏:‏ وأما ما نقله الرافعي عن الهروي فالضمير في قوله ‏"‏بموجبه‏"‏ عائد على الكتاب وموجب الكتاب صدور ما تضمه من إقرار أو تصرف أو غير ذلك‏.‏ وقبوله‏,‏ وإلزام العمل به هو أنه ليس بزور‏,‏ وأنه مثبت الحجة غير مردود‏,‏ ثم يتوقف الحكم بها على أمور أخر‏.‏

منها عدم معارضة بينة أخرى كما صرح به الهروي في بقية كلامه وغير ذلك ولذلك قال الرافعي الصواب أنه ليس بحكم ونحن نوافقه على ذلك في تلك المسألة‏.‏ أما مسألتنا هذه فالحكم بموجب الإقرار الذي هو مضمون الكتاب ولم يتكلم الرافعي ولا الهروي فيه بشيء فزال التعلق بكلامهما‏,‏ انتهى‏.‏

الثاني‏:‏ معنى قولهم ‏"‏الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد‏"‏

أي في الماضي ولكن بغير الحكم في المستقبل لانتفاء الترجيح الآن ولهذا يعمل بالاجتهاد الثاني في القبلة ولا ينقض ما مضى‏.‏ 

وفي المطلب ما قاله الأصحاب في الخنثى إذا تعارض البول مع الحيض فلا دلالة تقتضي أنه لو بال من فرج الرجل وحكمنا بذكورته ثم حاض في أوانه حكمنا بإشكاله إذ البول يتقدم إمكان الحيض‏.‏

قال وما اقتضاه كلامهم مشكل لأنه نقض للاجتهاد بالاجتهاد‏.‏

قال الأسنوي‏:‏ والجواب عنه أن النقض الممتنع إنما هو في الأحكام الماضية ونحن لا نتعرض لها وإنما غيرنا الحكم لانتفاء المرجح الآن وصار كالمجتهد في القبلة وغيرها إذا غلب على ظنه دليل فأخذ به ثم عارضه دليل آخر فإنه يتوقف عن الأخذ به في المستقبل ولا ينقض ما مضى‏.‏

الثالث‏:‏ استثني من القاعدة صور‏:‏

الأولى‏:‏ للإمام الحمى ولو أراد من بعده نقضه فله ذلك في الأصح لأنه للمصلحة وقد تتغير ومنع الإمام الاستثناء وقال ليس مأخذ التجويز هذا ولكن حمى الأول كان للمصلحة وهي المتبع في كل عصر‏.‏ الثانية‏:‏ لو قسم في قسمة إجبار ثم قامت بينة بغلط القاسم أو حيفه نقضت مع أن القاسم قسم باجتهاده فنقض القسمة بقول مثله والمشهود به مجتهد فيه مشكل وقد استشكله صاحب المطلب لذلك‏.‏

الثالثة‏:‏ إذا قوم المقومون ثم اطلع على صفة زيادة أو نقص بطل تقويم الأول لكن هذا يشبه نقض الاجتهاد بالنص لا بالاجتهاد‏.‏

الرابعة لو أقام الخارج بينة وحكم له بها وصارت الدار في يده ثم أقام الداخل بينة حكم له بها ونقض الحكم الأول لأنه إنما قضى للخارج لعدم حجة صاحب اليد هذا هو الأصح في الرافعي‏.‏

وقال الهروي‏:‏ في الإشراف‏.‏ قال القاضي حسين‏:‏ أشكلت علي هذه المسألة منذ نيف وعشرين سنة‏,‏ لما فيها من نقض الاجتهاد بالاجتهاد‏,‏ وتردد جوابي‏,‏ ثم استقر رأيي على أنه لا ينقض‏.‏

فائدة‏:‏

قال السبكي‏:‏ إذا كان للحاكم أهلية الترجيح ورجح قولا منقولا بدليل جيد جاز‏,‏ ونفذ حكمه‏.‏ وإن كان مرجوحا عند أكثر الأصحاب ما لم يخرج عن مذهبه‏,‏ وليس له أن يحكم بالشاذ الغريب في مذهبه‏,‏ وإن ترجح عنده‏;‏ لأنه كالخارج عن مذهبه فلو حكم بقول خارج عن مذهبه وقد ظهر له رجحانه‏,‏ فإن لم يشرط عليه الإمام في التولية التزام مذهب جاز‏,‏ وإن شرط عليه باللفظ أو العرف كقوله‏:‏ ‏"‏على قاعدة من تقدمه‏"‏ ونحو ذلك لم يصح الحكم لأن التولية لم تشمله‏.‏

وأفتى ابن عبد السلام بأن الحاكم المعلوم المذهب إذا حكم بخلاف مذهبه وكان له رتبة الاجتهاد‏,‏ أو وقع الشك فيه‏.‏ فالظاهر أنه لا يحكم بخلاف مذهبه فينقض حكمه‏.‏

وقال الماوردي‏:‏ إذا كان الحاكم شافعيا وأداه اجتهاده في قضية أن يحكم بمذهب أبي حنيفة جاز‏.‏ ومنع منه بعض أصحابنا لتوجه التهمة إليه‏,‏ ولأن السياسة تقتضي مدافعة استقرار المذاهب وتمييز أهلها‏.‏ وقال ابن الصلاح‏:‏ لا يجوز لأحد أن يحكم في هذا الزمان بغير مذهبه‏,‏ فإن فعل نقض لفقد الاجتهاد في أهل هذا الزمان‏.‏

خاتمة‏:‏

ينقض قضاء القاضي إذا خالف نصا‏,‏ أو إجماعا‏,‏ أو قياسا جليا‏.‏

قال القرافي‏:‏ أو خالف القواعد الكلية‏.‏ قال الحنفية‏:‏ أو كان حكما لا دليل عليه‏,‏ نقله السبكي في فتاويه‏.‏

قال‏:‏ وما خالف شرط الواقف فهو مخالف للنص‏.‏ وهو حكم لا دليل عليه‏,‏ سواء كان نصه في الوقف نصا‏,‏ أو ظاهرا‏.‏

قال‏:‏ وما خالف المذاهب الأربعة‏,‏ فهو كالمخالف للإجماع‏.‏

قال‏:‏ وإنما ينقض حكم الحاكم لتبين خطئه‏,‏ والخطأ قد يكون في نفس الحكم بكونه خالف نصا أو شيئا مما تقدم‏,‏ وقد يكون الخطأ في السبب كأن يحكم ببينة مزورة ثم يتبين خلافه‏,‏ فيكون الخطأ في السبب لا في الحكم‏,‏ وقد يكون الخطأ في الطريق‏,‏ كما إذا حكم ببينة ثم بان فسقها‏.‏

وفي هذه الثلاثة ينقض الحكم بمعنى أنا تبينا بطلانه‏,‏ فلو لم يتعين الخطأ‏,‏ بل حصل مجرد التعارض‏:‏ كقيام بينة بعد الحكم بخلاف البينة التي ترتب الحكم عليها‏,‏ فلا نقل في المسألة‏.‏ والذي يترجح‏:‏ أنه لا ينقض‏,‏ لعدم تبين الخطأ‏.‏

القاعدة الثانية‏:‏ إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام

وأورده جماعة حديثا بلفظ‏:‏ ‏"‏ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال‏"‏‏.‏ قال الحافظ أبو الفضل العراقي‏:‏ ولا أصل له‏,‏ وقال السبكي في الأشباه والنظائر

 نقلا عن البيهقي‏:‏ هو حديث رواه جابر الجعفي‏,‏ رجل ضعيف‏,‏ عن الشعبي عن ابن مسعود‏,‏ وهو منقطع‏.‏

قلت‏:‏ وأخرجه من هذا الطريق عبد الرزاق في مصنفه‏.‏ وهو موقوف على ابن مسعود لا مرفوع‏.‏

ثم قال ابن السبكي‏:‏ غير أن القاعدة في نفسها صحيحة‏.‏ قال الجويني في السلسلة‏:‏ لم يخرج عنها إلا ما ندر‏.‏

فمن فروعها‏:‏

إذا تعارض دليلان‏:‏ أحدهما يقتضي التحريم والآخر الإباحة قدم التحريم في الأصح ومن ثم قال عثمان‏,‏ لما سئل عن الجمع بين أختين بملك اليمين‏:‏ ‏"‏أحلتهما آية وحرمتهما آية‏.‏ والتحريم أحب إلينا‏"‏ وكذلك تعارض حديث‏:‏ ‏"‏لك من الحائض ما فوق الإزار‏"‏‏,‏ وحديث‏:‏ ‏"‏اصنعوا كل شيء إلا النكاح‏"‏‏,‏ فإن الأول يقتضي تحريم ما بين السرة والركبة‏.‏ والثاني يقتضي إباحة ما عدا الوطء‏,‏ فيرجح التحريم احتياطا‏.‏ قال الأئمة‏:‏ وإنما كان التحريم أحب لأن فيه ترك مباح لاجتناب محرم‏.‏ وذلك أولى من عكسه‏.‏

ومنها‏:‏ لو اشتبهت محرم بأجنبيات محصورات لم تحل‏.‏

ومنها‏:‏ قاعدة مد عجوة ودرهم‏.‏

ومنها‏:‏ من أحد أبويها كتابي‏,‏ والآخر مجوسي‏.‏ أو وثني‏:‏ لا يحل نكاحها ولا ذبيحتها‏,‏ ولو كان الكتابي الأب في الأظهر‏,‏ تغليبا لجانب التحريم‏.‏

ومنها‏:‏ من أحد أبويه مأكول‏,‏ والآخر غير مأكول‏.‏ لا يحل أكله‏,‏ ولو قتله محرم ففيه الجزاء تغليبا للتحريم في الجانبين‏.‏

ومنها‏:‏ لو كان بعض الضبة للحاجة‏,‏ وبعضها للزينة‏:‏ حرمت‏.‏

ومنها‏:‏ لو كان بعض الشجرة في الحل‏,‏ وبعضها في الحرم‏:‏ حرم قطعها‏.‏

ومنها‏:‏ لو اشترك في الذبح مسلم ومجوسي‏,‏ أو في قتل الصيد سهم وبندقة‏:‏ لم يحل‏.‏ ومنها‏:‏ عدم جواز وطء الجارية المشتركة‏.‏

ومنها‏:‏ لو اشتبه مذكى بميتة‏,‏ أو لبن بقر بلبن أتان أو ماء وبول‏:‏ لم يجز تناول شيء منها ولا بالاجتهاد‏,‏ ما لم تكثر الأواني كاشتباه المحرم‏.‏

ومنها‏:‏ لو اختلطت زوجته بغيرها‏,‏ فليس له الوطء‏,‏ ولا باجتهاد‏,‏ سواء كن محصورات أم لا بلا خلاف‏,‏ قاله في شرح المهذب‏.‏

ومن صوره‏:‏ أن يطلق إحدى زوجتيه مبهما‏,‏ فيحرم الوطء قبل التعيين أو يسلم على أكثر من أربع‏,‏ فيحرم قبل الاختيار‏.‏

 ومنها‏:‏ ما ذكره النووي في فتاويه‏:‏ إذا أخذ المكاس من إنسان دراهم فخلطها بدراهم المكس‏,‏ ثم رد عليه قدر درهمه من ذلك المختلط‏.‏ لا يحل له إلا أن يقسم بينه وبين الذي أخذت منهم‏.‏

وفي فتاوى ابن الصلاح‏:‏ لو اختلط درهم حلال بدراهم حرام‏.‏ ولم يتميز فطريقه‏:‏ أن يعزل قدر الحرام بنية القسمة‏.‏ ويتصرف في الباقي‏,‏ والذي عزله إن علم صاحبه سلمه إليه‏,‏ وإلا تصدق به عنه‏,‏ وذكر مثله النووي وقال‏:‏ اتفق أصحابنا‏,‏ ونصوص الشافعي على مثله فيما إذا غصب زيتا أو حنطة‏.‏ وخلط بمثله‏,‏ قالوا‏:‏ يدفع إليه من المختلط قدر حقه‏.‏ ويحل الباقي للغاصب‏.‏

قال‏:‏ فأما ما يقوله العوام‏:‏ إن اختلاط ماله بغيره يحرمه‏,‏ فباطل‏,‏ لا أصل له‏.‏ ومنها‏:‏ لو انتشر الخارج فوق العادة‏,‏ وجاوز الحشفة أو الصفحة‏,‏ فإنه لا يجزي الحجر في غير المجاوز أيضا‏.‏

ومنها‏:‏ لو تلفظ الجنب بالقرآن‏.‏ بقصد القراءة والذكر معا‏:‏ فإنه يحرم‏.‏

ومنها‏:‏ لو وقف جزءا من أرض مشاعا مسجدا‏:‏ صح‏.‏ ووجب القسمة‏,‏ ولا يجوز قبل القسمة للجنب المكث في شيء من أجزائها‏,‏ ولا الاعتكاف تغليبا للتحريم في الجانبين ذكره ابن الصلاح في فتاويه‏.‏

ومنها‏:‏ لو رمى الصيد فوقع بأرض‏,‏ أو جبل‏,‏ ثم سقط منه‏,‏ حرم لحصول الموت بالسهم والسقطة‏.‏ وخرج عن هذه القاعدة فروع‏:‏

منها‏:‏ الاجتهاد في الأواني والثياب‏,‏ والثوب المنسوخ من حرير وغيره يحل إن كان الحرير أقل وزنا‏,‏ وكذا إن استويا في الأصح‏,‏ بخلاف ما إذا زاد وزنا‏.‏

ونظيره‏:‏ التفسير‏,‏ يجوز مسه للمحدث إن كان أكثر من القرآن‏,‏ وكذا إن استويا في الأصح‏,‏ إلا إن كان القرآن أكثر‏.‏

ومنها‏:‏ لو رمى سهما إلى طائر فجرحه‏,‏ ووقع على الأرض فمات‏,‏ فإنه يحل وإن أمكن إحالة الموت على الوقوع على الأرض‏;‏ لأن ذلك لا بد منه‏,‏ فعفي عنه‏.‏

ومنها‏:‏ معاملة من أكثر ماله حرام إذا لم يعرف عينه لا يحرم في الأصح‏,‏ لكن يكره وكذا الأخذ من عطايا السلطان إذا غلب الحرام في يده كما قال في شرح المهذب إن المشهور فيه الكراهة‏,‏ لا التحريم‏,‏ خلافا للغزالي‏.‏

ومنها‏:‏ لو اعتلفت الشاة علفا حراما لم يحرم لبنها ولحمها‏,‏ ولكن تركه أورع‏.‏ نقله في شرح المهذب عن الغزالي‏.‏

ومنها‏:‏ أن يكون الحرام مستهلكا أو قريبا منه‏;‏ فلو أكل المحرم شيئا قد استهلك فيه الطيب فلا فدية‏,‏ ولو خالط المائع الماء بحيث استهلك فيه جاز استعماله كله في الطهارة ولو مزج لبن المرأة بماء بحيث استهلك فيه‏,‏ لم يحرم‏,‏ وكذا لو لم يستهلك‏,‏ ولكن لم يشرب الكل‏,‏ ولا يجوز القراض على المغشوش‏.‏ قال الجرجاني‏:‏ ما لم يكن مستهلكا‏.‏

ومنها‏:‏ لو اختلطت محرمه بنسوة قرية كبيرة‏:‏ فله النكاح منهن‏.‏

ولو اختلط حمام مملوك بمباح لا ينحصر‏.‏ جاز الصيد ولو كان المملوك غير محصور أيضا في الأصح‏.‏ قال في زوائد الروضة‏:‏ ومن المهم‏:‏ ضبط العدد المحصور‏.‏ فإنه يتكرر في أبواب الفقه وقل من بينه‏.‏

قال الغزالي‏:‏ وإنما يضبط بالتقريب‏,‏ فكل عدد لو اجتمع في صعيد واحد‏,‏ لعسر على الناظرين عده بمجرد النظر‏.‏ كالألف ونحوه‏,‏ فهو غير محصور‏.‏ وما سهل‏,‏ كالعشرة والعشرين فهو محصور‏,‏ وبين الطرفين أوساط متشابهة‏,‏ تلحق بأحد الطرفين بالظن‏,‏ وما وقع فيه الشك استفتي فيه القلب‏.‏

ولو ملك الماء بالاستسقاء‏,‏ ثم انصب في نهر‏,‏ لم يزل ملكه عنه ولا يمنع الناس من الاستقاء‏.‏ وهو في حكم الاختلاط بغير المحصور‏.‏

قال في الإحياء‏:‏ ولو اختلط في البلد حرام لا ينحصر‏.‏ لم يحرم الشراء منه‏,‏ بل يجوز الأخذ منه‏,‏ إلا أن يقترن به علامة على أنه من الحرام‏.‏

فصل‏:‏ يدخل في هذه القاعدة‏:‏ تفريق الصفقة‏.‏

وهي أن يجمع في عقدين حرام وحلال‏.‏ ويجري في أبواب وفيها غالبا قولان‏,‏ أو وجهان‏:‏ أصحهما الصحة في الحلال‏,‏

والثاني‏:‏ البطلان في الكل‏.‏ وادعى في المهمات‏:‏ أنه المذهب

واختلف في علته‏.‏ فالصحيح‏:‏ أنها الجمع بين الحلال والحرام فغلب الحرام وقيل‏:‏ الجهالة بما يخص الملك من العوض‏.‏

ومن أمثلة ذلك في البيع‏:‏ أن يبيع خلا وخمرا‏,‏ أو شاة وخنزيرا‏,‏ أو عبدا وحرا‏,‏ أو عبده وعبد غيره‏,‏ أو مشتركا بغير إذن شريكه‏,‏ أو مال الزكاة قبل إخراجها‏,‏ أو الماء الجاري مع قراره‏,‏ أو غير الجاري‏,‏ وقلنا‏:‏ الماء لا يملك‏.‏ والأظهر الصحة في القدر المملوك بحصته من المسمى‏.‏

ومنها‏:‏ أن يهب ذلك‏,‏ كما صرح به في التتمة‏,‏ فيما إذا وهب عبدا فخرج بعضه مستحقا أن يرهنه‏,‏ أو يصدقه‏,‏ أو يخالع عليه‏.‏

وفي النكاح‏:‏ أن يجمع من لا تحل‏,‏ له الأمة‏:‏ بين حرة وأمة في عقد‏,‏ فالأظهر‏:‏ صحة النكاح في الحرة‏.‏ وكذا لو جمع في عقد بين مسلمة ووثنية‏,‏ أو أجنبية ومحرم أو خلية‏.‏ 

ومعتدة‏,‏ أو مزوجة‏.‏ وكذا لو جمع من تحل له الأمة بين أمة وأختين‏,‏ فإنه يبطل في الأختين وفي الأمة‏:‏ القولان‏.‏

وفي الهدنة‏:‏ إذا زادت على القدر الجائز‏.‏ بطلت في الزائد‏:‏ وفي الباقي‏:‏ القولان أظهرهما‏:‏ الصحة‏.‏ وفي المناضلة‏:‏ إذا كانت بين حزبين‏,‏ فظهر في أحدهما من لا يحسن الرمي‏,‏ بطل العقد فيه‏.‏ وسقط من الحزب الآخر مقابله وهل يبطل العقد في الباقي‏:‏ فيه القولان‏.‏ أصحهما‏:‏ لا‏.‏

وفي الضمان والإبراء‏:‏ لو قال‏:‏ ضمنت لك الدراهم التي على فلان‏,‏ أو أبرأتك من الدراهم التي عليك‏,‏ وهو لا يعلم قدرها‏,‏ فهل يصح في ثلاثة‏;‏ لأنها القدر المستيقن‏:‏ وجهان من تفريق الصفقة‏.‏ كذا في الروضة وأصلها في الصداق ومقتضاه الصحة‏.‏

وذكر المسألة في باب الضمان‏,‏ وقالا‏:‏ وجهان‏,‏ كما لو أجر كل شهر بدرهم‏.‏ وهل يصح في الشهر الأول ومقتضاه تصحيح البطلان‏,‏ فإنه الأصح في مسألة الإجارة‏.‏

ولو أهدى من له عادة بالإهداء للقاضي‏,‏ وزاد على المعتاد قبل الولاية‏,‏ ففي أصل الروضة‏:‏ صارت هديته كهدية من لم تعهد منه الهدية‏,‏ ومقتضاه‏:‏ تحريم الكل‏.‏ قال في المهمات‏:‏ والقياس تخصيص ذلك بما زاد‏,‏ وتخريج الباقي على تفريق الصفقة‏.‏ وحينئذ فتصير الهدية مشتركة على الصحيح‏,‏ فإن زاد في المعنى‏,‏ كأن أهدى الحرير بعد أن كان يهدي الكتان‏,‏ فهل يبطل في الجميع‏,‏ أو يصح فيها بقدر قيمة العادة فيه نظر‏,‏ والأوجه‏:‏ الأول انتهى‏.‏

وقال البلقيني‏:‏ المعتمد اختصاص التحريم بالزيادة‏,‏ فإن تميزت‏,‏ وإلا حرم الكل‏.‏ وفي إحياء الموات‏:‏ لو تحجر الشخص فأكثر مما يقدر على إحيائه‏,‏ فقيل‏:‏ يبطل في الجميع‏;‏ لأنه لا يتميز ما يقدر عليه من غيره‏.‏ وقال المتولي‏.‏ يصح فيما يقدر عليه‏.‏ قال في الروضة‏:‏ وهو قوي‏.‏

وفي الوصية‏:‏ لو أوصى بثلثه لوارث وأجنبي‏,‏ بطلت في الوارث‏.‏ وفي الآخر‏:‏ وجهان‏:‏ أصحهما‏:‏ الصحة‏.‏

وألحق بعضهم بذلك‏:‏ ما إذا أوصى بأكثر من الثلث‏,‏ ولا وارث له‏,‏ فالمعروف فيه الجزم بالصحة في الثلث‏.‏

وفي الشهادات‏:‏ لو جمع في شهادته بين ما يجوز‏,‏ وما لا يجوز‏,‏ هل تبطل في الكل‏,‏ أو فيما لا يجوز خاصة‏,‏ ويقبل فيما يجوز فيه قولا تفريق الصفقة‏.‏

ومن أمثلته‏:‏

لو ادعى بألف‏:‏ فشهد له بألفين‏.‏ بطلت في الزائد‏,‏ وفي الألف المدعى بها قولا تفريق الصفقة أصحهما‏:‏ الصحة‏.‏

تنبيه‏:‏

ذكروا لجريان الخلاف في تفريق الصفقة شروطا‏:‏

الأول‏:‏ أن لا يكون في العبادات‏,‏ فإن كانت فيها‏,‏ صح فيما يصح فيه قطعا‏.‏

فلو عجل زكاة سنتين‏,‏ صح لسنة قطعا‏.‏

ولو نوى حجتين‏:‏ انعقدت واحدة قطعا‏.‏

ولو نوى في النفل‏:‏ أربع ركعات بتسليمتين‏.‏ انعقدت بركعتين قطعا‏,‏ دون الأخيرتين لأنه لما سلم منهما خرج عن الصلاة فلا يصير شارعا في الأخيرتين‏,‏ إلا بنية وتكبيرة‏.‏

ذكره القاضي حسين في فتاويه‏.‏

ويستثنى صور‏:‏

الأولى‏:‏ لو نوى في رمضان صوم جميع الشهر‏,‏ بطل فيما عدا اليوم الأول‏,‏ وفيه وجهان‏,‏ أصحهما‏:‏ الصحة‏.‏

الثانية‏:‏ لو نوى التيمم لفرضين‏,‏ بطل في أحدهما‏,‏ وفي الآخر وجهان‏.‏ أصحهما‏:‏ الصحة‏.‏

وقد انعكست هذه المسألة على الزركشي‏,‏ فقال‏,‏ في قواعده‏:‏ صح لواحد قطعا‏.‏ وفي الآخر خلاف‏,‏ وهو غلط‏.‏

الثالثة‏:‏ ادعى على الخارص الغلط بما يبعد‏,‏ لم يقبل فيما زاد على القدر المحتمل‏.‏ وفي المحتمل‏:‏ وجهان‏.‏ أصحهما‏:‏ القبول فيه‏.‏

الرابعة‏:‏ نوى قطع الوضوء في أثنائه‏.‏ بطل ما صادف النية قطعا‏;‏ وفي الماضي وجهان أصحهما‏:‏ لا‏.‏

قال في الخادم‏:‏ وهي من مسائل تفريق الصفقة في العبادات‏.‏

الخامسة‏:‏ مسح أعلى الخفين‏,‏ وهو ضعيف‏,‏ ووصل البلل إلى أسفل القوي‏,‏ وقصدهما‏,‏ لم يصح في الأعلى‏,‏ وفي الأسفل وجهان أصحهما‏:‏ الصحة‏.‏

السادسة‏:‏ صلى على موتى‏,‏ واعتقدهم أحد عشر‏,‏ فبانوا عشرة فوجهان في البحر‏.‏

أصحهما‏:‏ الصحة والثاني‏:‏ البطلان‏;‏ لأن النية قد بطلت في الحادي عشر‏,‏ لكونه معدوما‏,‏ فتبطل في الباقي‏.‏

السابعة‏:‏ صلى على حي وميت‏,‏ فالذي يظهر أن يكون فيه وجهان من تفريق الصفقة‏,‏ لكن في البحر‏:‏ إن جهل الحال صحت‏,‏ وإلا فلا‏.‏ كمن صلى الظهر قبل الزوال‏,‏ وفيما قاله نظر‏.‏

الثامنة‏:‏ ولم أر من تعرض لها إذا جاوز الغائط الأليتين‏,‏ أو البول الحشفة‏,‏ وتقطع فإن الماء يتعين في المجاوز قطعا‏,‏ وفي غيره وجهان أصحهما‏:‏ يجزي فيه الحجر‏.‏ ذكره في شرح المهذب‏,‏ وجزم به في الكفاية‏.‏ ونقله القاضي حسين عن النص‏,‏ والروياني عن الأصحاب والثاني‏:‏ يجب غسل الجميع‏,‏ حكاه في الحاوي‏.‏

الشرط الثاني‏:‏

أن لا يكون مبنيا على السراية‏,‏ والتغليب‏,‏ فإن كان‏,‏ كالطلاق‏,‏ والعتق بأن طلق زوجته وغيرها‏,‏ أو أعتق عبده وغيره‏,‏ أو طلقها أربعا‏,‏ نفذ فيما يملكه إجماعا‏.‏

الثالث‏:‏

أن يكون الذي يبطل فيه معينا بالشخص‏,‏ أوالجزئية‏,‏ ليخرج ما إذا اشترط الخيار أربعة أيام‏,‏ فإنه يبطل في الكل‏,‏ ولم يقل أحد بأنه يصح في الثلاثة‏:‏ وغلط البالسي‏,‏ في شرح التنبيه‏,‏ حيث خرجها على القولين‏,‏ وما إذا عقد على خمس نسوة‏,‏ أو أختين معا‏,‏ فإنه يبطل في الجميع‏:‏ ولم يقل أحد بالصحة في البعض‏;‏ لأنه ليست هذه بأولى من هذه‏,‏ وغلط صاحب الذخائر بتخريجها‏.‏

ولو جمع من تحل له الأمة لإعساره بين حرة وأمة في عقد فطريقان‏:‏ أظهرهما عند الإمام‏,‏ وابن القاص أنه على القولين‏.‏ وقال ابن الحداد وأبو زيد وآخرون‏:‏ يبطل قطعا لأنه جمع بين امرأتين‏,‏ يجوز إفراد كل منهما‏,‏ ولا يجوز الجمع‏,‏ فأشبه الأختين‏.‏ والأول فرق بأن الأختين ليس فيهما أقوى‏.‏ والحرة أقوى‏.‏

واستثني من هذا الشرط مسألتا المناضلة‏,‏ والتحجر السابقتان فإن الأصح فيهما‏:‏ الصحة‏.‏ تخريجا على القولين‏,‏ مع أنه لا يتعين الذي يبطل فيه‏.‏

الرابع‏:‏ إمكان التوزيع‏,‏ ليخرج ما لو باع مجهولا ومعلوما

ومن ذلك‏:‏ ما لو باع أرضا مع بذر‏,‏ أو زرع‏.‏ لا يفرد بالبيع‏,‏ فإنه يبطل في الجميع على المذهب‏.‏ وقيل‏:‏ في الأرض القولان‏.‏

واستثني من ذلك مسألة بيع الماء مع قراره‏,‏ فإن الماء الجاري مجهول القدر‏.‏

الخامس‏:‏ أن لا يخالف الإذن‏,‏ ليخرج ما لو استعار شيئا ليرهنه على عشرة فرهنه بأكثر فالمذهب‏:‏ البطلان في الكل‏,‏ لمخالفة الإذن‏.‏ وقيل‏:‏ تخرج على تفريق الصفقة ولو استأجره لينسج له ثوبا‏,‏ طوله عشرة أذرع‏,‏ في عرض معين‏,‏ فنسج أحد عشر لم يستحق شيئا من الأجرة‏,‏ أو تسعة فإن كان طول السدى عشرة‏,‏ استحق من الأجرة بقدره‏,‏ لأنه لو أراد أن ينسج عشرة لتمكن منه‏:‏ وإن كان طوله تسعة‏,‏ لم يستحق شيئا حكاه الرافعي عن التتمة‏.‏

ولو أجر الراهن العين المرهونة مدة تزيد على محل الدين‏:‏ بطل في الكل على الصحيح‏.‏ وقيل‏:‏ بل في القدر الزائد‏,‏ وفي الباقي قولا تفريق الصفقة‏,‏ واختاره السبكي‏.‏

ونظير ذلك‏:‏ أن يشرط الواقف‏:‏ أن لا يؤجر الوقف أكثر من سنة مثلا فيزاد‏,‏ فأفتى الشيخ ولي الدين العراقي بالبطلان في الكل‏,‏ قياسا على مسألة الرهن‏.‏

وأفتى قاضي القضاة‏:‏ جلال الدين البلقيني بالصحة‏,‏ في القدر الذي شرطه الواقف‏.‏

قال له الشيخ ولي الدين‏:‏ أنت تقول بقول الماوردي في الرهن قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فافرق‏.‏ قال‏:‏ حتى أعطي المسألة كتفا‏.‏ قلت‏:‏ والمسألة ذكرها الزركشي في قواعده‏.‏ وقال‏:‏ لم أر فيها نقلا‏,‏ والظاهر أنها على خلاف تفريق الصفقة‏,‏ حتى يصح في المشروط وحده‏:‏ وذكرها أيضا الغزي‏,‏ في أدب القضاء‏,‏ وقال‏:‏ لا نقل فيها والمتجه‏:‏ التخريج على تفريق الصفقة‏,‏ انتهى‏.‏

فائدة‏:‏

قال الزركشي‏:‏ مخالفة الإذن على ثلاثة أقسام‏:‏ مخالفة إذن وصفي‏,‏ كمسألة الإعارة للرهن‏,‏ ومخالفة إذن شرعي‏,‏ كمسألة إجارة المرهون‏.‏ ومخالفة إذن شرطي‏,‏ كمسألة إجارة الوقف المذكورة‏.‏

السادس‏:‏ أن لا يبنى على الاحتياط‏,‏ فلو زاد في العرايا على القدر الجائز‏.‏ فالمذهب‏:‏ البطلان في الكل‏:‏ وفي المطلب عن الجويني‏:‏ تخريجه على القولين‏.‏

ولو أصدق الولي عن الطفل أو المجنون‏,‏ عينا من ماله أكثر من مهر المثل‏,‏ فالمجزوم به في الصداق في أصل الروضة فساد الصداق‏,‏ والذي في التنبيه‏:‏ أنه يبطل الزائد فقط‏,‏ ويصح في قدر مهر المثل من المسمى وأقره في التصحيح‏,‏ وصححه في أصل الروضة‏,‏ في نكاح السفيه‏.‏

ثم حكي عن ابن الصباغ‏:‏ أن القياس بطلان المسمى ووجوب مهر المثل من المسمى‏,‏ وأن الفرق أنه على قوله‏:‏ يجب مهر المثل في الذمة‏,‏ وعلى الأول‏:‏ تستحق الزوجة مهر المثل من المسمى‏.‏ قال ابن الرفعة‏:‏ فهذا تناقض‏,‏ إذ لا فرق بين ولي الطفل‏,‏ وولي السفيه‏.‏ وقال السبكي‏:‏ في تصوير المسألة بين الأصحاب‏,‏ وابن الصباغ‏:‏ نظر‏:‏ فإن الولي إن لم يتعرض للمهر‏,‏ فالعقد إنما يكون على الذمة‏,‏ ولا يصح إلا بمهر المثل‏,‏ لا بمسمى غيره‏,‏ فلا يتحقق الخلاف‏.‏ وإن أذن في عين هي أكثر من مهر المثل فينبغي أن يبطل في الزائد‏.‏ وفي الباقي خلاف تفريق الصفقة‏,‏ أو هو كبيعه بالإذن عينا من ماله‏.‏ قال‏:‏ ويمكن أن يصور بقوله‏:‏ انكح فلانة‏,‏ وأصدقها من هذا المال‏,‏ فأصدق منه أكثر من مهر مثلها‏,‏ لكن يأتي فيه الخلاف في إذنه في البيع‏.‏ قال‏:‏ وقد تصور بما إذا لم ينص على المهر‏,‏ وعقد على زائد من غير نقد البلد‏,‏ فعند ابن الصباغ‏:‏ يرجع إلى مهر المثل من نقد البلد‏.‏ وعند غيره‏:‏ يصح في قدر مهر المثل مما سمي‏.‏ انتهى‏.‏

السابع‏:‏ أن يورد على الجملة ليخرج ما لو قال‏:‏ أجرتك كل شهر بدرهم‏,‏ فإنه لا يصح في سائر الشهور قطعا‏,‏ ولا في الشهر الأول على الأصح‏.‏ ولو قال‏:‏ ضمنت نفقة الزوجة‏,‏ فالضمان في الغد‏,‏ وما بعده فاسد‏,‏ وهل يصح في يوم الضمان‏؟‏ وجهان‏.‏ أصحهما‏:‏ لا‏,‏ بناء على مسألة الإجارة‏.‏

الثامن‏:‏ أن يكون المضموم إلى الجائز يقبل العقد في الجملة فلو قال‏:‏ زوجتك بنتي وابني‏,‏ أو وفرسي‏:‏ صح نكاح البنت على المذهب‏;‏ لأن المضموم لا يقبل النكاح‏,‏ فلغا‏.‏ وقيل‏:‏ بطرد القولين‏.‏

تنبيه‏:‏

كما تفرق الصفقة في المثمن تفرق في الثمن

ومثاله‏:‏ ما قالوه في الشفعة‏:‏ لو خرج بعض المسمى مستحقا بطل البيع في ذلك القدر‏,‏ وفي الباقي خلاف تفريق الصفقة في الابتداء‏.‏

فصل ويدخل في هذه القاعدة أيضا‏:‏ قاعدة‏:‏ ‏"‏إذا اجتمع في العبادة جانب الحضر‏,‏ وجانب السفر غلب جانب الحضر‏"‏

لأنه اجتمع المبيح‏,‏ والمحرم فغلب المحرم‏.‏ فلو مسح حضرا‏,‏ ثم سافر‏,‏ أو عكس‏.‏ أتم مسح مقيم‏.‏

ولو مسح إحدى الخفين حضرا‏,‏ والأخرى سفرا‏,‏ فكذلك على الأصح عند النووي طردا للقاعدة‏.‏ 

ولو أحرم قاصرا‏,‏ فبلغت سفينته دار إقامته أتم‏.‏

ولو شرع في الصلاة في دار الإقامة‏,‏ فسافرت سفينته‏,‏ فليس له القصر‏.‏

واستشكل تصويره‏;‏ لأن القصر شرطه النية في الإحرام‏.‏ ولا يصح بنيته في الإقامة فامتناع القصر إذا سافر أثناءها‏,‏ لفقد نيته‏,‏ لا لتغليب حكم الحضر‏.‏

وأجيب‏:‏ بأنا نعلل وجوب الإتمام بعلتين‏.‏ إحداهما‏:‏ اجتماع حكم الحضر‏,‏ والسفر والأخرى‏:‏ فقد نية القصر‏.‏

ولو قضى فائتة سفر في الحضر‏,‏ أو عكسه‏:‏ امتنع القصر‏.‏

ولو أصبح صائما في الإقامة‏,‏ فسافر أثناء النهار‏,‏ أو في السفر‏,‏ فأقام أثناءه‏:‏ حرم الفطر على الصحيح‏.‏ ولو ابتدأ النافلة على الأرض‏,‏ ثم أراد السفر فأراد ترك الاستقبال‏:‏ لم يجز له بلا خلاف قاله في شرح المهذب‏.‏

ولو أقام بين الصلاتين‏:‏ بطل الجمع‏,‏ أو قبل فراغهما في جمع التأخير‏:‏ صارت الأولى قضاء‏.‏

ولو شرع المسافر في الصلاة بالتيمم‏,‏ فرأى الماء‏:‏ لم تبطل‏,‏ فإن نوى الإقامة بعده بطلت على الصحيح‏.‏

ولو نوى الإقامة‏,‏ ولم ير ماء‏:‏ أتمها‏.‏ وهل تجب الإعادة‏؟‏ وجهان‏.‏ أحدهما‏:‏ نعم لأنه صار مقيما‏,‏ والمقيم تلزمه الإعادة والثاني‏:‏ لا وبه قطع الروياني‏,‏ واختاره ابن الصباغ‏.‏

قال البغوي‏:‏ ولو اتصلت السفينة التي يصلي فيها بدار الإقامة في أثناء صلاته بالتيمم لم تبطل‏.‏ ولم تجب الإعادة في الأصح‏,‏ كما لو وجد الماء‏.‏ نقل ذلك في شرح المهذب‏.‏ وأقره‏,‏ فعلى ما ذكره الروياني‏,‏ والبغوي‏.‏ يستثنى ذلك من القاعدة‏.‏

فرع‏:‏

ولدته‏,‏ ولم أره منقولا

لو أحرم بالجمعة في سفينة بدار الإقامة على الشط‏;‏ بأن اتصلت الصفوف إليه‏,‏ فصلى مع الإمام ركعة‏,‏ ثم نوى المفارقة جاز وصح إتمامه الجمعة‏.‏

فلو سارت السفينة‏,‏ والحالة هذه‏,‏ وفارقت عمران البلد‏,‏ فيحتمل أن يتم الجمعة‏;‏ لأنه أدركها بإدراك ركعة مع الإمام‏,‏ والوقت باق‏.‏ ويحتمل أن تنقلب ظهرا‏;‏ لأن الجمعة شرطها دار الإقامة‏,‏ فلما فارقها أشبه ما لو خرج الوقت في أثنائها‏.‏ ويحتمل أن تبطل الصلاة بالكلية لأنه طرأ مانع من إتمامها جمعة والوقت باق‏.‏ وفرضه الجمعة‏,‏ وهو عاص بمفارقته بلد الجمعة قبل انقضائها‏,‏ ومتمكن من العود إليها لإدراكها‏,‏ ومن فرضه الجمعة لا يصح منه الظهر قبل اليأس منها‏.‏ وهذا الاحتمال أوجه عندي‏,‏ ولم أر المسألة مسطورة‏.‏

فصل‏:‏ ويدخل في هذه القاعدة أيضا‏,‏ قاعدة ‏"‏إذا تعارض المانع والمقتضي‏,‏ قدم المانع‏"‏‏.‏

ومن فروعها‏:‏

لو استشهد الجنب‏,‏ فالأصح أنه لا يغسل‏.‏

ولو ضاق الوقت أو الماء عن سنن الطهارة‏:‏ حرم فعلها‏.‏

ولو ارتد الزوجان معا تشطر الصداق في الأصح‏,‏ كما لو ارتد وحده‏.‏

ولو جرحه جرحين‏:‏ عمدا‏,‏ وخطأ‏,‏ أو مضمونا‏,‏ وهدرا‏,‏ ومات بهما‏:‏ لا قصاص‏.‏

ولو كان ابن الجاني ابن ابن عم لم يعقل‏,‏ وفي قول‏:‏ نعم‏,‏ كما يلي النكاح‏,‏ في هذه الصورة‏.‏ وأجاب الأول‏:‏ بأن البنوة في العقل مانعة‏,‏ فلا يعمل معها المقتضي‏,‏ وفي ولاية النكاح ليست بمانعة‏,‏ بل غير مقتضية‏,‏ فإذا وجد مقتض‏,‏ عمل‏.‏

ونظير ذلك‏:‏ ما ذكره ابن المسلم في استحقاق الخنثى السلب إن قلنا‏:‏ المرأة لا تستحقه‏.‏ قال‏:‏ يحتمل وجهين‏,‏ منشؤهما التردد في أن الذكورة مقتضية‏,‏ أم الأنوثة مانعة‏؟‏

قال‏:‏ والأظهر الاستحقاق‏,‏

ولو تغير فم الصائم بسبب غير الصوم‏,‏ كأن نام بعد الزوال‏.‏ فهل يكره له السواك‏؟‏ قال الزركشي‏:‏ قياس هذه القاعدة الكراهة‏.‏ وصرح المحب الطبري‏:‏ بأنه لا يكره وخرج عن هذه القاعدة صور‏:‏

منها‏:‏ اختلاط موتى المسلمين بالكفار‏,‏ أو الشهداء بغيرهم‏.‏ يوجب غسل الجميع والصلاة وإن كان الصلاة على الكفار والشهداء حراما‏.‏ واحتج له البيهقي‏:‏ بأن النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏مر بمجلس‏,‏ فيه أخلاط من المسلمين والمشركين‏,‏ فسلم عليهم‏"‏‏.‏

ومنها‏:‏ يحرم على المرأة ستر جزء من وجهها في الإحرام‏,‏ ويجب ستر جزء منه مع الرأس للصلاة‏,‏ فتجب مراعاة الصلاة‏.‏

ومنها‏:‏ الهجرة على المرأة من بلاد الكفر واجبة‏.‏ وإن كان سفرها وحدها حراما‏.‏

خاتمة‏:‏

لهم قاعدة عكس هذه القاعدة‏,‏ وهي‏:‏ ‏"‏الحرام لا يحرم الحلال‏"‏ وهو لفظ حديث أخرجه ابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر‏,‏ مرفوعا‏.‏ 

قال ابن السبكي‏:‏ وقد عورض به حديث‏:‏ ‏"‏إذا اجتمع الحلال والحرام‏,‏ غلب الحرام‏"‏ وليس بمعارض‏;‏ لأن المحكوم به ثم إعطاء الحلال حكم الحرام تغليبا واحتياطا لا صيرورته في نفسه حراما‏.‏

ومن فروع ذلك‏:‏ ما تقدم في خلط الدرهم الحرام بالمباح‏.‏ وخلط الحمام المملوك بالمباح غير المحصور‏.‏ وكذا المحرم بالأجانب‏,‏ وغير ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ لو ملك أختين فوطئ واحدة‏,‏ حرمت عليه الأخرى‏.‏ فلو وطئ الثانية لم تحرم عليه الأولى‏,‏ لأن الحرام لا يحرم الحلال‏.‏

وفي وجه‏.‏ إذا أحبل الثانية حلت‏,‏ وحرمت الأولى‏,‏ قال في الروضة‏:‏ وهو غريب‏.‏

القاعدة الثالثة‏:‏ الإيثار في القرب مكروه‏.‏ وفي غيرها محبوب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏‏.‏

قال الشيخ عز الدين‏:‏ لا إيثار في القربات‏,‏ فلا إيثار بماء الطهارة‏,‏ ولا بستر العورة ولا بالصف الأول‏;‏ لأن الغرض بالعبادات‏:‏ التعظيم‏,‏ والإجلال‏.‏ فمن آثر به‏,‏ فقد ترك إجلال الإله وتعظيمه‏.‏ وقال الإمام‏:‏ لو دخل الوقت ومعه ماء يتوضأ به فوهبه لغيره ليتوضأ به‏,‏ لم يجز‏,‏ لا أعرف فيه خلافا‏;‏ لأن الإيثار‏:‏ إنما يكون فيما يتعلق بالنفوس‏,‏ لا فيما يتعلق بالقرب‏,‏ والعبادات‏.‏

وقال في شرح المهذب‏,‏ في باب الجمعة‏:‏ لا يقام أحد من مجلسه ليجلس في موضعه‏,‏ فإن قام باختياره‏,‏ لم يكره‏,‏ فإن انتقل إلى أبعد من الإمام كره‏.‏ قال أصحابنا‏:‏ لأنه آثر بالقربة‏.‏

وقال الشيخ أبو محمد‏,‏ في الفروق‏:‏ من دخل عليه وقت الصلاة‏,‏ ومعه ما يكفيه لطهارته‏,‏ وهناك من يحتاجه للطهارة‏,‏ لم يجز له الإيثار‏.‏

ولو أراد المضطر‏:‏ إيثار غيره بالطعام‏,‏ لاستبقاء مهجته‏,‏ كان له ذلك‏,‏ وإن خاف فوات مهجته‏.‏ والفرق‏:‏ أن الحق في الطهارة لله‏,‏ فلا يسوغ فيه الإيثار‏,‏ والحق في حال المخمصة لنفسه‏.‏

وقد علم أن المهجتين على شرف التلف‏,‏ إلا واحدة تستدرك بذلك الطعام‏,‏ فحسن إيثار غيره على نفسه‏.‏

قال‏:‏ ويقوي هذا الفرق مسألة المدافعة‏;‏ وهي‏:‏ أن الرجل إذا قصد قتله ظلما وهو قادر على الدفع‏,‏ غير أنه يعلم أن الدفع ربما يقتل القاصد‏,‏ فله الاستسلام‏.‏

وقال الخطيب في الجامع‏:‏ كره قوم إيثار الطالب غيره بنوبته في القراءة‏,‏ لأن قراءة العلم والمسارعة إليه قربة‏,‏ والإيثار بالقرب مكروه‏,‏ انتهى‏.‏

وقد جزم بذلك النووي في شرح المهذب‏;‏ وقال في شرح مسلم‏:‏ الإيثار بالقرب مكروه‏,‏ أو خلاف الأولى‏,‏ وإنما يستحب في حظوظ النفس‏,‏ وأمور الدنيا‏.‏

قال الزركشي‏:‏ وكلام الإمام ووالده السابق‏:‏ يقتضي أن الإيثار بالقرب حرام‏,‏ فحصل ثلاثة أوجه‏.‏ قلت‏:‏ ليس كذلك‏,‏ بل الإيثار إن أدى إلى ترك واجب فهو حرام‏:‏ كالماء‏,‏ وساتر العورة‏,‏ والمكان في جماعة لا يمكن أن يصلي فيه أكثر من واحد‏,‏ ولا تنتهي النوبة‏,‏ لآخرهم إلا بعد الوقت‏,‏ وأشباه ذلك‏,‏ وإن أدى إلى ترك سنة‏,‏ أو ارتكاب مكروه فمكروه‏,‏ أو لارتكاب خلاف الأولى‏,‏ مما ليس فيه نهي مخصوص‏,‏ فخلاف الأولى وبهذا يرتفع الخلاف‏.‏

تنبيه‏:‏

من المشكل على هذه القاعدة‏:‏ من جاء ولم يجد في الصف فرجة‏,‏ فإنه يجر شخصا بعد الإحرام‏,‏ ويندب للمجرور أن يساعده‏,‏ فهذا يفوت على نفسه قربة‏,‏ وهو أجر الصف الأول‏.‏

القاعدة الرابعة‏:‏ التابع تابع‏.‏

يدخل في هذه العبارة قواعد‏:‏

الأولى‏:‏ أنه لا يفرد بالحكم‏;‏ لأنه إنما جعل تبعا‏.‏

ومن فروعه‏:‏

لو أحيا شيئا له حريم‏,‏ ملك الحريم في الأصح‏,‏ تبعا فلو باع الحريم دون الملك‏,‏ لم يصح‏.‏

ومنها‏:‏ الحمل يدخل في بيع الأم تبعا لها‏,‏ فلا يفرد بالبيع‏.‏

ومنها‏:‏ الدود المتولد في الطعام يجوز أكله معه‏,‏ تبعا لا منفردا في الأصح‏.‏

ومنها‏:‏ لو نقض السوقة العهد‏,‏ ولم يعلم الرئيس والأشراف‏,‏ ففي انتقاض العهد في حق السوقة وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ المنع‏,‏ كما لا اعتبار بعهدهم‏.‏ حكاه الرافعي عن ابن كج‏.‏

 ومنها قولهم‏:‏ صفات الحقوق لا تفرد بالإسقاط‏;‏ لأنها تابعة‏,‏ فلو أسقط من عليه الدين المؤجل الأجل‏;‏ لم يسقط‏,‏ ولا يتمكن المستحق من مطالبته في الحال‏,‏ في الأصح لأنه صفة تابعة والصفة لا تفرد بالإسقاط‏,‏ وكذا لو أسقط الجودة أو الصحة لا تسقط‏,‏ جزم به الرافعي‏.‏

ولو أسقط الرهن‏,‏ أو الكفيل سقط في الأصح‏.‏ وقال الجويني‏:‏ لا كالأجل‏,‏ وفرق غيره بأن شرط القاعدة‏:‏ أن لا يكون الوصف مما يفرد بالعقد‏,‏ كالرهن والكفيل‏,‏ بخلاف الأجل‏,‏ فإنه وصف لازم لا يمكن إنشاؤه بعقد مستقل‏.‏

الثانية‏:‏ التابع يسقط بسقوط المتبوع‏.‏

ومن فروعه‏:‏

من فاتته صلاة في أيام الجنون‏,‏ لا يستحب قضاء رواتبها‏;‏ لأن الفرض سقط‏,‏ فكذا تابعه‏.‏

ومنها‏:‏ من فاته الحج فتحلل بالطواف‏,‏ والسعي‏,‏ والحلق‏,‏ لا يتحلل بالرمي‏,‏ والمبيت لأنها من توابع الوقوف‏,‏ وقد سقط فيسقط التابع‏.‏

ومنها‏:‏ إذا بطل أمان رجال‏,‏ أو أشراف‏,‏ ففي وجه‏:‏ يبطل الأمان في الصبيان والنساء‏,‏ والسوقة‏;‏ لأنهم إنما دخلوا في الأمان تبعا‏,‏ ولكن الأصح خلافه‏.‏

ومنها‏:‏ لو مات الفارس سقط سهم الفرس لأنه تابع‏:‏ فإذا فات الأصل سقط‏.‏ ولو مات الفرس استحق الفارس سهم الفرس‏;‏ لأنه متبوع‏.‏

ومنها‏:‏ لو مات الغازي‏,‏ ففي قول‏:‏ لا يصرف لأولاده وزوجته من الديوان لأن تبعيتهم زالت بموته‏,‏ والأصح خلافه‏,‏ ترغيبا في الجهاد‏.‏

ومنها‏:‏ لو امتنع غسل الوجه في الوضوء لعلة به‏,‏ وما جاوره صحيح‏,‏ لم يستحب غسله للغرة كما صرح به الإمام‏,‏ ونقله في المطلب وأقره‏;‏ لأنه تابع لغسل الوجه‏,‏ فسقط لسقوطه لكن جزموا بأنه لو قطع من فوق الذراع ندب غسل باقي عضده‏,‏ محافظة على التحجيل‏.‏ قال الجويني‏:‏ وإنما لم يسقط التابع في هذه الصورة لسقوط المتبوع‏,‏ كمن فاتتها صلاة زمن الحيض والجنون فإنها لا تقضي رواتبها‏,‏ كما لا يقضى الفرض‏;‏ لأن سقوط القضاء فيما ذكر رخصة مع إمكانه‏,‏ فإذا سقط الأصل مع إمكانه‏,‏ فالتابع أولى‏.‏ وسقوط الأصل هنا لتعذره‏,‏ والتعذر مختص بالذراع‏,‏ فبقي العضد على ما كان من الاستحباب‏,‏ وصار كالمحرم الذي لا شعر على رأسه‏,‏ يندب إمرار الموسى عليه‏.‏ كذا فرق الجويني‏,‏ وجزم به الشيخان‏.‏ وفرق ابن الرفعة بأن السنة شهدت بأن تلك النوافل مكملة لنقص الفرائض‏,‏ فإذا لم يكن فريضة‏,‏ فلا تكملة‏,‏ وليس تطويل التحجيل مأمورا به لتكملة غسل اليدين والرجلين‏,‏ لأنه كامل بالمشاهدة‏,‏ فتعين أن يكون مطلوبا لنفسه‏.‏ وفي هذا الفرق منع كونه تابعا‏,‏ وإليه مال الأسنوي‏.‏ وفرق بين مسألة اليد والوجه‏:‏ بأن فرض الرأس المسح‏,‏ وهو باق عند تعذر غسل الوجه‏.‏ واستحباب مسح العنق والأذنين باق بحاله‏,‏ فإذا لم يستحب غسل ذلك‏,‏ لم يخل المحل المطلوب عن الطهارة‏,‏ ولا كذلك في مسألة اليد‏.‏

تنبيه‏:‏

يقرب من ذلك قولهم‏:‏ ‏"‏الفرع يسقط إذا سقط الأصل‏"‏‏.‏

ومن فروعه‏:‏

إذا برئ الأصيل برئ الضامن لأنه فرعه‏,‏ فإذا سقط الأصيل‏,‏ سقط بخلاف العكس‏,‏ وقد يثبت الفرع‏,‏ وإن لم يثبت الأصل‏,‏ ولذلك صور‏:‏

منها‏:‏ لو قال شخص‏:‏ لزيد على عمرو ألف‏,‏ وأنا ضامن به فأنكر عمرو‏,‏ ففي مطالبة الضامن وجهان أصحهما‏:‏ نعم‏.‏

ومنها‏:‏ ادعى الزوج الخلع‏,‏ وأنكرت‏:‏ ثبتت البينونة‏,‏ وإن لم يثبت المال الذي هو الأصل‏.‏

ومنها قال‏:‏ بعت عبدي من زيد‏,‏ وأعتقه زيد‏.‏ فأنكر زيد‏,‏ أو قال‏:‏ بعته من نفسه فأنكر العبد‏,‏ عتق فيهما‏,‏ ولم يثبت العوض‏.‏

ومنها‏:‏ قال أحد الابنين فلانة بنت أبانا‏,‏ وأنكر الآخر ففي حلها للمقر وجهان‏.‏ والمجزوم به في النهاية‏:‏ التحريم‏,‏ وهو المعمول به‏,‏ فقد ثبت الفرع دون الأصل‏:‏

ومنه‏:‏ قال لزوجته أنت أختي من النسب‏,‏ وهي معروفة النسب من غير أبيه ففي تحريمها عليه وجهان‏,‏ أو مجهولة النسب‏,‏ وكذبته‏:‏ انفسخ نكاحها في الأصح‏.‏

ومنها‏:‏ ادعت زوجية رجل‏,‏ فأنكر‏,‏ ففي تحريم النكاح عليها وجهان‏.‏

ومنها‏:‏ ادعت الإصابة‏,‏ قبل الطلاق‏,‏ وأنكر‏,‏ ففي وجوب العدة عليها وجهان الأصح‏:‏ نعم‏.‏

الثالثة‏:‏ التابع لا يتقدم على المتبوع‏.‏

ومن فروعه‏:‏

المزارعة على البياض بين النخل والعنب جائزة تبعا لها بشروط‏.‏

 منها‏:‏ أن يتقدم لفظ المساقاة‏,‏ فلو قدم لفظ المزارعة‏,‏ فقال‏:‏ زارعتك على البياض‏,‏ وساقيتك على النخل على كذا‏.‏ لم يصح‏;‏ لأن التابع لا يتقدم على المتبوع‏.‏

ومنها‏:‏ لو باع بشرط الرهن فقدم لفظ الرهن على البيع‏,‏ لم يصح‏.‏

ومنها‏:‏ لا يصح تقدم المأموم على إمامه في الموقف‏.‏ ولا في تكبيرة الإحرام والسلام ولا في سائر الأفعال في وجه‏.‏

ومنها‏:‏ لو كان بينه وبين الإمام شخص يحصل به الاتصال ولولا هو لم تصح قدوته لم يصح أن يحرم قبله‏;‏ لأنه تابع له‏,‏ كما أنه تابع لإمامه‏,‏ ذكره القاضي حسين‏.‏

ومنها‏:‏ ذكر القاضي أيضا أنه لو حضر الجمعة من لا تنعقد به‏,‏ كالمسافر والعبد والمرأة لم يصح إحرامهم بها إلا بعد إحرام أربعين من أهل الكمال لأنهم تبع لهم كما في أهل الكمال مع الإمام‏.‏

الرابعة‏:‏ يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها

وقريب منها‏:‏ يغتفر في الشيء ضمنا ما لا يغتفر فيه قصدا‏.‏

وربما يقال‏:‏ يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل‏.‏

وقد يقال‏:‏ أوائل العقود تؤكد بما لا يؤكد به أواخرها‏,‏

والعبارة الأولى أحسن وأعم‏.‏

ومن فروعها‏:‏

سجود التلاوة في الصلاة‏,‏ يجوز على الراحلة قطعا تبعا‏,‏ وجرى فيه خارجها خلاف لاستقلاله‏.‏

ومنها‏:‏ المستعمل في الوضوء‏,‏ لا يستعمل في الجنابة اتفاقا‏,‏ ويستتبع غسل الجنابة الوضوء على الأصح‏,‏ ويندرج فيه الترتيب والمسح‏.‏

ومنها‏:‏ المستعمل في الحدث‏,‏ لا يستعمل في الخبث‏,‏ وعكسه على الأصح‏.‏

ولو كان على محل نجاسة فغسله عنها وعن الحدث طهرا في الأصح‏.‏

ومنها‏:‏ لا يثبت شوال إلا بشهادة اثنين قطعا‏.‏

ولو صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوما ولم يروا الهلال‏,‏ أفطروا في الأصح لحصوله ضمنا وتبعا‏.‏

ومنها‏:‏ لا يثبت النسب بشهادة النساء‏,‏ فلو شهدن بالولادة على الفراش ثبت النسب تبعا‏.‏

ومنها‏:‏ البيع الضمني‏,‏ يغتفر فيه ترك الإيجاب والقبول‏,‏ ولا يغتفر ذلك في البيع المستقل‏.‏

 ومنها‏:‏ الصور التي يصح فيها ملك الكافر المسلم‏,‏ لكونه تبعا له ولا يصح استقلالا وستأتي في الكتاب الخامس‏.‏

ومنها‏:‏ لا يصح بيع الزرع الأخضر إلا بشرط القطع‏,‏ فإن باعه مع الأرض جاز تبعا ومنها‏:‏

لا يجوز تعليق الإبراء‏.‏ ولو علق عتق المكاتب جاز وإن كان متضمنا للإبراء‏.‏

ومنها‏:‏ لا يجوز تعليق الاختيار‏,‏ وله تعليق طلاق أربع منهن مثلا‏,‏ فيقع الاختيار‏.‏ معلقا ضمنا‏,‏ فإن الطلاق اختيار للمطلقة‏.‏

ومنها‏:‏ الوقف على نفسه‏,‏ لا يصح‏.‏ ولو وقف على الفقراء ثم صار منهم استحق في الأصح تبعا‏.‏

القاعدة الخامسة‏:‏ تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة

هذه القاعدة نص عليها الشافعي وقال‏:‏ ‏"‏منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ وأصل ذلك‏:‏ ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه‏.‏ قال‏:‏ حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق‏,‏ عن البراء بن عازب قال‏:‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم‏,‏ إن احتجت أخذت منه فإذا أيسرت رددته فإن استغنيت استعففت‏"‏‏.‏

ومن فروع ذلك‏:‏

أنه إذا قسم الزكاة على الأصناف يحرم عليه التفضيل‏,‏ مع تساوي الحاجات‏.‏

ومنها‏:‏ إذا أراد إسقاط بعض الجند من الديوان بسبب‏:‏ جاز‏,‏ وبغير سبب لا يجوز حكاه في الروضة‏.‏

ومنها‏:‏ ما ذكره الماوردي أنه لا يجوز لأحد من ولاة الأمور أن ينصب إماما للصلاة فاسقا‏,‏ وإن صححنا الصلاة خلفه‏;‏ لأنها مكروهة‏.‏ وولي الأمر مأمور بمراعاة المصلحة‏,‏ ولا مصلحة في حمل الناس على فعل المكروه‏.‏

ومنها‏:‏ أنه إذا تخير في الأسرى بين القتل‏,‏ والرق‏,‏ والمن والفداء‏,‏ لم يكن له ذلك بالتشهي بل بالمصلحة‏.‏ حتى إذا لم يظهر وجه المصلحة يحبسهم إلى أن يظهر‏.‏

ومنها‏:‏ أنه ليس له العفو عن القصاص مجانا‏;‏ لأنه خلاف المصلحة‏,‏ بل إن رأى المصلحة في القصاص اقتص‏,‏ أو في الدية أخذها‏.‏

ومنها‏:‏ أنه ليس له أن يزوج امرأة بغير كفء‏,‏ وإن رضيت‏;‏ لأن حق الكفاءة للمسلمين‏,‏ وهو كالنائب عنهم‏,‏ فلا يقدر على إسقاطه‏.‏

ومنها‏:‏ أنه لا يجيز وصية من لا وارث له بأكثر من الثلث‏.‏

ومنها‏:‏ أنه لا يجوز له أن يقدم في مال بيت المال غير الأحوج على الأحوج‏.‏ قال السبكي في فتاويه‏,‏ فلو لم يكن إمام‏,‏ فهل لغير الأحوج أن يتقدم بنفسه فيما بينه وبين الله تعالى‏,‏ إذا قدر على ذلك‏,‏ ملت إلى أنه لا يجوز‏.‏ واستنبطت ذلك من حديث‏:‏ ‏"‏إنما أنا قاسم‏,‏ والله المعطي‏"‏‏.‏

قال‏:‏ ووجه الدلالة‏:‏ أن التمليك والإعطاء إنما هو من الله تعالى لا من الإمام‏,‏ فليس للإمام أن يملك أحدا إلا ما ملكه الله‏.‏ وإنما وظيفة الإمام القسمة‏.‏ والقسمة لا بد أن تكون بالعدل‏.‏ ومن العدل‏:‏ تقدم الأحوج والتسوية بين متساوي الحاجات فإذا قسم بينهما‏,‏ ودفعه إليهما علمنا أن الله ملكهما قبل الدفع‏.‏ وأن القسمة إنما هي معينة لما كان مبهما‏,‏ كما هو بين الشريكين‏,‏ فإذا لم يكن إمام وبدر أحدهما واستأثر به‏,‏ كان كما لو استأثر بعض الشركاء بالماء المشترك‏,‏ ليس له ذلك‏.‏ قال‏:‏ ونظير ذلك ما ذكره الماوردي في باب التيمم‏:‏ أنه لو ورد اثنان على ماء مباح وأحدهما أحوج‏,‏ فبدر الآخر وأخذ منه‏:‏ أنه يكون مسيئا‏.‏

ومنها‏:‏ وقع بعد السبعمائة ببلاد الصعيد أن عبدا انتهى الملك فيه لبيت المال فاشترى نفسه من وكيل بيت المال‏,‏ فأفتى جلال الدين الدشناوي بالصحة فرفعت الواقعة إلى القاضي شمس الدين الأصبهاني فقال‏:‏ لا يصح‏;‏ لأنه عقد عتاقة‏,‏ وليس لوكيل بيت المال أن يعتق عبد بيت المال‏.‏

قال ابن السبكي في التوشيح‏:‏ والصواب ما أفتى به الدشناوي‏,‏ فإن هذا العتق إنما وقع بعوض‏,‏ فلا تضييع فيه على بيت المال‏.‏

القاعدة السادسة‏:‏ الحدود‏:‏ تسقط بالشبهات

قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ادرءوا الحدود بالشبهات‏"‏ أخرجه ابن عدي‏;‏ في جزء له من حديث ابن عباس‏.‏ وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة‏:‏ ‏"‏ادفعوا الحدود ما استطعتم‏"‏‏.‏ وأخرج الترمذي والحاكم والبيهقي وغيرهم من حديث عائشة‏:‏ ‏"‏ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم‏,‏ فإن وجدتم للمسلم مخرجا‏,‏ فخلوا سبيله‏,‏ فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة‏"‏‏.‏ وأخرجه البيهقي عن عمر‏,‏ وعقبة بن عامر‏,‏ ومعاذ بن جبل موقوفا‏.‏ وأخرج من حديث علي مرفوعا‏:‏ ‏"‏ادرءوا الحدود‏"‏ فقط‏.‏ وقال مسدد في مسنده‏:‏ حدثنا يحيى القطان‏,‏ عن شعبة‏,‏ عن عاصم‏,‏ عن أبي وائل عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏"‏ادرءوا الحدود بالشبهة‏"‏ وهو موقوف‏,‏ حسن الإسناد‏.‏ وأخرج الطبراني عنه موقوفا‏:‏ ‏"‏ادرءوا الحدود‏,‏ والقتل عن عباد الله ما استطعتم‏"‏‏.‏

الشبهة تسقط الحد

سواء كانت في الفاعل‏,‏ كمن وطئ امرأة ظنها حليلته أو في المحل‏,‏ بأن يكون للواطئ فيها ملك أو شبهة‏,‏ كالأمة المشتركة‏,‏ والمكاتبة‏.‏ وأمة ولده ومملوكته المحرم أو في الطريق بأن يكون حلالا عند قوم‏,‏ حراما عند آخرين‏,‏ كنكاح المتعة‏,‏ والنكاح بلا ولي أو بلا شهود‏,‏ وكل نكاح مختلف فيه‏,‏ وشرب الخمر للتداوي‏.‏ وإن كان الأصح تحريمه‏,‏ لشبهة الخلاف‏.‏

وكذا يسقط الحد بقذف من شهد أربعة بزناها‏,‏ وأربع أنها عذراء‏,‏ لاحتمال صدق بينة الزنا‏,‏ وأنها عذراء لم تزل بكارتها بالزنا‏.‏ وسقط عنها الحد لشبهة الشهادة بالبكارة‏.‏ ولا قطع بسرقة مال أصله‏,‏ وفرعه وسيده‏,‏ وأصل سيده وفرعه‏,‏ لشبهة استحقاق النفقة وسرقة ما ظنه ملكه‏,‏ أو ملك أبيه أو ابنه‏.‏

ولو ادعى كون المسروق ملكه‏.‏ سقط القطع‏,‏ نص عليه للشبهة‏.‏ وهو اللص الظريف ونظيره‏:‏ أن يزني بمن لا يعرف أنها زوجته‏.‏ فيدعي أنها زوجته‏,‏ فلا يحد‏.‏

ولا يقتل فاقد الطهورين بترك الصلاة متعمدا‏,‏ لأنه مختلف فيه‏.‏ وكذا من مس أو لمس وصلى متعمدا وهو شافعي‏,‏ أو توضأ ولم ينو‏.‏ ذكره القفال في فتاويه‏.‏

ويسقط القصاص أيضا بالشبهة‏,‏

فلو قد ملفوفا وزعم موته‏,‏ صدق الولي ولكن تجب الدية دون القصاص للشبهة ولو قتل الحر المسلم‏:‏ من لا يدرى أمسلم أو كافر‏؟‏ وحر أو عبد‏؟‏ فلا قصاص للشبهة نقله في أصل الروضة‏,‏ عن البحر‏.‏

تنبيه‏:‏

الشبهة‏:‏ لا تسقط التعزير‏,‏ وتسقط الكفارة

فلو جامع ناسيا في الصوم أو الحج‏,‏ فلا كفارة للشبهة‏.‏

وكذا لو وطئ على ظن أن الشمس غربت‏,‏ أو أن الليل باق‏,‏ وبان خلافه‏,‏ فإنه يفطر‏,‏ ولا كفارة‏.‏ قال القفال‏:‏ ولا تسقط الفدية بالشبهة‏;‏ لأنها تضمنت غرامة بخلاف الكفارة فإنها تضمنت عقوبة‏,‏ فالتحقت في الإسقاط بالحد‏,‏ وتسقط الإثم والتحريم‏,‏ إن كانت في الفاعل دون المحل‏.‏

تنبيه‏:‏

شرط الشبهة‏:‏ أن تكون قوية‏,‏ وإلا فلا أثر لها

ولهذا يحد بوطء أمة أباحها السيد‏,‏ ولا يراعى خلاف عطاء في إباحة الجواري للوطء وفي سرقة مباح الأصل‏,‏ كالحطب ونحوه‏.‏ وفي القذف على صورة الشهادة‏.‏

ولو قتل مسلم ذميا‏,‏ فقتله ولي الذمي‏:‏ قتل به وإن كان موافقا لرأي أبي حنيفة‏.‏

ومن شرب النبيذ يحد‏,‏ ولا يراعى خلاف أبي حنيفة‏.‏

القاعدة السابعة‏:‏ الحر‏:‏ لا يدخل تحت اليد

ولهذا‏:‏ لو حبس حرا‏,‏ ولم يمنعه الطعام حتى مات حتف أنفه‏,‏ أو بانهدام حائط ونحوه‏,‏ لم يضمنه‏.‏ ولو كان عبدا ضمنه‏,‏ ولا يضمن منافعه ما دام في حبسه‏.‏ إذا لم يستوفها ويضمن منافع العبد‏.‏

ولو وطئ حرة بشبهة فأحبلها‏,‏ وماتت بالولادة‏:‏ لم تجب ديتها في الأصح‏.‏

ولو كانت أمة وجب القيمة‏.‏

ولو طاوعته حرة على الزنا‏;‏ فلا مهر لها بالإجماع‏.‏

ولو طاوعته أمة‏:‏ فلها المهر‏,‏ في رأي لأن الحق للسيد‏;‏ فلا يؤثر إسقاطها‏,‏ وإن كان الأصح خلافه‏.‏ ولو نام عبد على بعير فقاده‏,‏ وأخرجه عن القافلة‏,‏ قطع‏;‏ أو حر فلا في الأصح‏.‏

ولو وضع صبيا حرا في مسبعة‏,‏ فأكله السبع‏;‏ فلا ضمان في الأصح‏,‏ بخلاف ما لو كان عبدا‏,‏

ولو كانت امرأة تحت رجل وادعى أنها زوجته‏,‏ فالصحيح أن هذه الدعوى عليها‏,‏ لا على الرجل‏;‏ لأن الحرة لا تدخل تحت اليد‏.‏

ولو أقام كل بينة‏:‏ أنها زوجته‏,‏ لم تقدم بينة من هي تحته‏,‏ لما ذكرنا‏,‏ بل لو أقاما بينتين على خلية‏,‏ سقطتا‏.‏

ولو كان في يد المدبر مال‏,‏ فقال‏:‏ كسبته بعد موت السيد فهو لي‏,‏ وقال الوارث‏:‏ بل قبله فهو لي‏,‏ صدق المدبر بيمينه لأن اليد له بخلاف دعواهما الولد‏;‏ لأنها تزعم أنه حر والحر لا يدخل تحت اليد‏,‏ وثياب الحر وما في يده من المال لا يدخل في ضمان الغاصب لأنها في يد الحر حقيقة‏,‏ وكذا لو كان صغيرا أو مجنونا على الأصح‏.‏ 

القاعدة الثامنة‏:‏ الحريم له حكم ما هو حريم له‏.‏

الأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات‏,‏ فقد استبرأ لدينه وعرضه‏,‏ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام‏,‏ كالراعي يرعى حول الحمى‏,‏ يوشك أن يرتع فيه‏"‏‏,‏ الحديث‏,‏ أخرجه الشيخان‏.‏

قال الزركشي‏:‏ الحريم يدخل في الواجب‏,‏ والحرام والمكروه وكل محرم له حريم يحيط به‏,‏ والحريم‏:‏ هو المحيط بالحرام‏,‏ كالفخذين فإنهما حريم للعورة الكبرى‏.‏

وحريم الواجب‏:‏ ما لا يتم الواجب إلا به‏.‏

ومن ثم وجب غسل جزء من الرقبة والرأس مع الوجه ليتحقق غسله وغسل جزء من العضد‏,‏ والساق مع الذراع وستر جزء من السرة والركبة مع العورة‏,‏ وجزء من الوجه مع الرأس للمرأة‏,‏ وحرم الاستمتاع بما بين السرة والركبة في الحيض لحرمة الفرج‏.‏

ضابط‏:‏

كل محرم فحريمه حرام إلا صورة واحدة‏,‏ لم أر من تفطن لاستثنائها‏,‏ وهي دبر الزوجة‏,‏ فإنه حرام‏,‏ وصرحوا بجواز التلذذ بحريمه‏,‏ وهو ما بين الأليتين‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في حريم المعمور‏‏]‏

ويدخل في هذه القاعدة حريم المعمور‏,‏ فهو مملوك لمالك المعمور في الأصح ولا يملك بالإحياء قطعا‏.‏ وحريم المسجد‏,‏ فحكمه حكم المسجد‏,‏ ولا يجوز الجلوس فيه للبيع ولا للجنب‏,‏ ويجوز الاقتداء فيه بمن في المسجد‏,‏ والاعتكاف فيه‏.‏

وضابط حريم المعمور‏:‏ تعرضوا له في باب إحياء الموات‏.‏

وأما رحبة المسجد فقال في شرح المهذب‏,‏ قال صاحب الشامل والبيان‏:‏ هي ما كان مضافا إلى المسجد‏,‏ وعبارة المحاملي‏:‏ هي المتصلة به خارجه‏.‏ قال النووي‏:‏ وهو الصحيح خلافا لقول ابن الصلاح إنها صحنه وقال البندنيجي‏:‏ هي البناء المبني بجواره متصلا به‏,‏ وقال القاضي أبو الطيب‏:‏ هو ما حواليه‏,‏ وقال الرافعي الأكثرون على عد الرحبة منه‏;‏ ولم يفرقوا بين أن تكون بينها وبين المسجد طريق أم لا‏,‏ وهو المذهب وقال ابن كج‏:‏ إن انفصلت عنه فلا‏.‏